ramzi.naili شخصية أولاد بريش
عدد المساهمات : 254 نقاط : 6282 الســــــمعة : 23 تاريخ التسجيل : 18/02/2009 العمر : 37
| موضوع: رواية قبل الرحيل //////////// سانقلها ... مجزءة ... السبت نوفمبر 07, 2009 2:00 pm | |
| يوسف جاد الحق قبل الرحيل روايـــة من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1997 - 1 - تقع قريتنا فوق رابية تتوسط سهلاً فسيح الأرجاء، يحيط بها من كل جانب، يكتظ بالكروم وبيارات البرتقال، كما تنتشر في بعض جنباته حقول القمح وبساتين الفاكهه من كل نوع ولون. وقد اختلفت فيها آراء أهلها قبل غيرهم. فمنهم من يقول إنها ليست سوى هضبة عادية، أوجدتها الطبيعة، فيما يقول آخرون انها تقوم على أنقاض مدينة رومانية غابرة. أما من زارها من اليهود القاطنين في مستعمرة (رخبوت) القريبة، أو (ريشون)، عيون قارة، الأبعد قليلاً، فقد زعموا أنها بنيت فوق أنقاض بلدة يهودية من عهد داوود وسليمان. تشغل المباني، متباينة الأشكال، سفوح الرابية، فتبدو للرائي، عن بعد، كأنها أهرامات الفراعنة القدماء. وعند القمة يقوم مسجد القرية الأثري، الذي يرجع تاريخ بنائه الى أوائل الفتح الأسلامي لهذه الديار، قبل نيف وثلاثة عشر قرناً. وتكتنف المسجد ساحة فسيحة يتجمع فيها، معظم النهار وشطراً من الليل، لفيف من الباعة الذين لا يفتأون يعلنون عن بضاعتهم بأصوات تملأ المكان ضجيجاً : عرقسوس.. فلافل..ملبس..كرابيج حلبية... مع أن هذه لم تكن (كرابيج)و لا هي من حلب، كما تبين لي فيما بعد، الأمر الذي أكد لي كم يخدع الكبار الصغار دون أن يرف لهم جفن..! تتشعب أزقة القرية الضيقة المتعرجة بين بيوت عتيقة، شيد بعضها من القش واللبن، وبعضها الآخر من الحجارة المقامة على غير انتظام، تكاد تتلاصق شرفاتها ونوافذها. عدد قليل منها بدا أكثر حداثة، وتلك هي منازل العائلات الثرية القليلة التي تمتلك الأراضي وبساتين البرتقال. من بين هذه المنازل دار فخمة ذات طابقين فسيحين، تملكها عائلة (الجمل)، تقع بجوار منزلنا الصغير الذي حاولوا شراءه من والدي مراراً دون أن يفلحوا، مع أنهم كانوا يملكون أكبر بيارات القرية، فضلاً عن أراضي شاسعة. وهم التجار الوحيدون للحمضيات فيها. حيث كانوا يتعهدون بيارات قريتنا والقرى المجاورة، بالضمان، ويستخدمون الكثير من أهلها طوال فصل الشتاء في موسم البرتقال، لقطفه وتغليفه، ثم نقله إلى مرفأ يافا، لكي يشحن، من ثم، الى مرافئ أوروبا، وقد رسمت على صناديقه العلامة التجارية التي طبقت شهرتها الآفاق : "برتقال يافا "Jaffa oranges ". على الرغم من كل شيء كانت (يبنا) تبدو لوحة فنية، ارتجلتها الطبيعة على غير نسق أو نظام، فصنعت من ذلك المزيج المتنافر جمالاً أخَّاذاً. ولئن كانت قريتنا صغيرة تكاد تنعدم فيها الخدمات العامة، لإهمال السلطات لها - ولم يكن ذلك استثناء لها على أية حال - إلا أن الحياة فيها لم تكن على قدر كبير من السوء، فهي ذات مناخ جميل، وطقس معتدل ومناظر طبيعية خلاَّبة. كما أنها تتمتع، بسبب موقعها، بعدد من المزايا التي لا يستهان بها، إذ يمر عبر أطرافها الشرقية خط السكة الحديدية القادم من محطة اللد شمالاً، والمتجه جنوباً نحو غزة ورفح، ثم العريش فالقنطرة في الأراضي المصرية. وتقوم على جانبيه أشجار الكينا الباسقة، ملقية بظلالها الوارفة على امتداده، باعثة مع تماوج الرياح، أنساماً عليلة يتفيؤها المارة من فلاحين وعمال، في غدوِّهم ورواحهم. كما يمتد عبر الأطراف الغربية للقرية طريق عريض معبد يتجه شمالاً إلى يافا، ماراً بقرى عربية عديدة، غرست بينها بعض المستعمرات اليهودية، بمعرفة حكومة الانتداب البريطاني وحمايتها. وبمحاذاة هذا الطريق، غرباً، تقع الساحة الرئيسية للقرية والتي تقام فيها، عادة، سوق الثلاثاء الشهيرة، التي يؤمها العديد من أهالي القرى المجاورة، حيث تتوافر فيها كل الأشياء، بدءاً من الخضار والفواكه، حتى الدواب والدواجن والغلال. وعند الزاوية الشمالية لهذه الساحة شيدت المدرسة الابتدائية الوحيدة فيها، من حجر أبيض يميزها عما حولها. وبجوارها تماماً تقع المقبرة التي لم تكن توحي بالوحشة، بل كانت أشبه بمنتزه عام لما يتخللها من أشجار ظليلة تحتضن رمالها الذهبية، يخترقها طريق يفضي إلى البحر عبر الكثبان الرملية، الحافلة بكروم العنب وأشجار التين والجميز، تتماوج على سفوحها وبين جنباتها في اتساق رائع بفوضاه وعدم انتظامه. وعلى مرتفع يحف بهذا الطريق ينتصب مقام - سيدنا أبي هريرة - كما كانوا يطلقون عليه، في غير قليل من الاجلال والتعظيم، والذي اعتاد الناس أن يتخذوه مزاراً، ومكاناً للوفاء بنذورهم. كما ألفوا أن يقيموا هنالك، وتحت ظلال أشجار الكينا العتيقة التي تكتنفه، سباق الخيل في مناسبات الأعياد والأعراس مع عزف الأرغول ودقات الطبول، وحلقات الدبكة . جو قريتنا أخَّاذ ساحر. ففي الصيف تنساب النسائم الرقيقة، القادمة من البحر خلال البساتين والكروم، فترطب أجواء أزقتها الضيقة ومنازلها الوادعة. وفي الشتاء تكسو سماءها الغيوم، وتهطل الأمطار بوفرة مبشرة بقدوم الخير والخصب. يحلو لنا، عندئذ، أن ندلف خارج منازلنا تحت وابل المطر الغزير، على الرغم من تقريع أمهاتنا لنا، كيما نستمتع بمرأى الماء المتدفق منحدراً من أعالي القرية، خلال قنواتها الصخرية المتعرجة، مرسلاً خريراً صاخباً، بلونه القرميدي الداكن، الذي اكتسبه في رحلته عبر أسطحة المنازل وجدرانها الطينية، ومن تربة الأرض الحمراء. نغوص وسط مجرى مائي، كثيراً ما نسيء تقدير قوته، فلا تلبث المياه أن تسحب أحدنا، فنهرع إليه صائحين مهللين، في مزيج من الفزع والفرح. وكلما لاح لنا أن الخطر الذي يتهدد زميلنا أكبر كانت بهجتنا أوفر..! يقع منزلنا على الطريق الرئيسي، عند منتصف السفح صعوداً وهذا الطريق هو صلة الوصل بين أعلى القرية وأدناها. كما أنه يشرف على البيوت الواقعة أسفل بيتنا، والمقاهي والدكاكين البادية عن بعد بمعروضاتها متباينة الألوان والأنواع، والمضاءة ليلاً بمصابيح الغاز. ولقد كنا نحظى، ونحن جلوس على الشرفة (الليوان) وبفضل موقعنا هذا، بسماع الأغاني ونشرات الأخبار المنطلقة من جهاز الراديو في مقهى (حامد القاضي) عن كثب، فيما تتماوج أمام أبصارنا أشجار البرتقال، مترامية حتى الأفق. لم يكن الراديو شيئاً مألوفاً بعد في تلك الأيام. لم يكن في القرية كلها سوى عدد منها لا يبلغ أصابع اليد الواحدة، يملكها سراة القوم، وفي طليعتهم المختار، وقد كان هذا خالاً لأمي. كان الناس يحارون في تفسير تلك الظاهرة العجيبة. حسب بعضهم أن ذلك الجهاز يحتوي رجلاً بداخله يصدح بالغناء، وهو نفسه يتلو القرآن، ويأتيهم بأنباء المشرق والمغرب أيضاً، واخبار الأولين والأخرين. كل أولئك وهو قاعد في مكانه لا يريم. إذن هذه احدى علامات الساعة واقتراب يوم القيامة بلا ريب ..! عزز هذا اليقين، حجم الجهاز الذي كان يقارب المتر مربعاً أو مكعباً على أقل تقدير، مما يتيح للرجل الجلوس داخله في راحة تامة...! في أمسيات الصيف، كنا نمضي سهرتنا في تلك الشرفة، أبواي، وأخواي، الأكبر والأصغر سعيد وأحمد. وكانت أمسياتنا أكثر ما تكون بهجة، وجمالاً أيام الانتصاف من الشهر القمري، حين يطل البدر قرصاً مستديراً ناصعاً من وراء الأفق، نرقبه فيما هو يمضي صعداً نحو قبة السماء، مضفياً على الكون والأشياء نوراً وبهاء، يغمر نفوسنا بالطمأنينة والسلام. ثم لا نلبث أن نعمد إلى اختراع الحكايا، وترديد ما يختلقه أو يرويه الوالدان من أساطير عنه، فيما تتناهى إلى أسماعنا أغنية من بعيد. وتبلغ سعادة أمي أوجها إذا كانت (أم كلثوم) تردد أغيتها الأثيرة لديها : .... على بلدي المحبوب وديني ... زاد وجدي والبعد كاويني. تتجاوب أصداؤها في كل الأرجاء برنينها الساحر، تثير الشجن والحنين إلى شيء غامض مجهول. - 2 - كان أبي سيد البيت المطاع. كلمته نافذة، ورأيه لا يناقش. شأنه في ذلك شأن سائر الرجال. وكانت أمي، بدورها، كغالبية النساء الريفيات، تجلُّ أبي وتوقره. لا تجادله في أمر، ولا ترد له مطلباً، إيماناً منها بالحكمة المأثورة القائلة بأن الزوج هو "الرب الأصغر" وأن غضبه "من غضب الخالق" جلَّ شأنه. ولم يغير من هذا الوضع عشرتهما الطويلة الأمد تحت سقف واحد. فهي لم تكن تجد في نفسها الشجاعة ال*****ة لمفاتحته في شأن من الشؤون العامة أو الخاصة، دون أن تقدم لذلك بشيء من التسويغ او الاعتذار المسبق. من هنا كانت مهمتها حرجة في ذلك الصباح، مما جعلها تقدم طعام الأفطار وهي في حالة من الاضطراب، مع أن المسألة لم تكن على تلك الدرجة من الخطورة. كان عليها أن تطلب اليه - أو على الأصح أن ترجوه - بأن يصطحبني إلى المدرسة، إذ كنت قد تأخرت في اليوم السابق بضع دقائق عن بدء الدرس الأول، وطلب إليَّ الأستاذ (عبد الخالق) أن أحضر في اليوم التالي بصحبة ولي أمري. ترددت والدتي قليلاً قبل أن تخبره بذلك، خشية أن يصَّب جام غضبه علينا جميعاً، ممثلين في شخصها. أو أن يوجه لها عاصفة من اللوم على تقصيرها في رعاية شؤون أولادها..! كنت إذاَّك في أواخر السنة الثامنة من عمري. وفي الصف الثالث الابتدائي على وجه التحديد. ولم أكن قد مررت بالصفين الأول والثاني شأن من هم في مثل سني. إذ كنت قد أمضيت عامين في كتَّاب الشيخ (عبد الكريم كرِّيم) قبل أن أنتقل إلى المدرسة الأميرية، وفي أواخر السنة الدراسية أيضاً. وكان ذلك بسب مشاجرة وقعت بيني وبين طفل آخر من أترابي، لطمني على أثرها معاونه الشيخ أسعد - وهو كهل ضرير - على وجهي، فخرجت للتو مهرولاً إلى دارنا القريبة، حتى دون أن أنتظر ساعة الانصراف. لم تكن الدراسة في ذلك الكتَّاب تنتظم التلاميذ صفوفاً أو فصولاً، بل كنا نجلس، كيفما اتفق، في فناء الدار المظللة بعريش من العنب. ثم نأخذ في ترديد آيات من القرآن الكريم، وراء الشيخ بأصواتنا الرنانة، التي كثيراً ما أقلقت راحة سكان الحي بأكمله. أو نعمد إلى كتابة وظيفة (الخط) طوال النهار حتى يصيبنا الملل بالدوار. وكان ذلك الدرس مجرد نسخ للسور الصغيرة على ألواح من الأجر، دون أن نفقه لما نكتب أو نقرأ معنى. أما في فصل الشتاء فكنا نقبع على حصير في قاعة فسيحة الأرجاء، ارتفع سقفها أمتاراً عديدة كي يزيد من برودتها. ليس لها سوى نافذة واحدة تطل على فناء الدار. وتردد بيننا انها كانت تستخدم من قبل مخزناً للتبن و الغلال، وفي فترة من الفترات كانت اسطبلاً يؤوي عدداً من البغال كان يملكها أصحاب الدار فيما سلف..! كان أبي - كغيره من الناس في ذلك الوقت - يؤمن بما كان سائداً من نظريات وأفكار بين أهل القرى، تجمع في مجملها على أن التعليم الحق وقف على الكتاب دون غيره. وأن المدارس الحكومية التي أنشأها الانكليز لا تعلم غير البدع والضلال ..عن القط والفأر والثعلب.. وراس روس.. هذا بدلاً عن تحفيظهم القرآن الكريم..! لهذا كان عسيراً إقناعه بجدوى دخولي المدرسة الحكومية لولا تلك الحادثة. من هنا يمكنك أن تدرك مدى حرج والدتي وهي تحاول مفاتحته في ذلك الشأن. بيد أن والدي - وهذه كانت مفاجأة لأمي لم تتوقعها - استشاط غضباً. لعن الكتَّاب وأصحابه. أمسك بيدي، وانطلق بي إلى دار الشيخ عبد الكريم، ليصب هنالك، وعلى رأس الشيخ أسعد (معاونه) سيلاً من عبارات التأنيب والتنديد. بل وليعلن على الملأ بأن ولده هذا لن يبقى في ذلك الكتَّاب بعد ذلك اليوم. وأن هذا الولد "خسارة فيكم بالله العظيم.. ". فأمثاله من النابهين لا ينبغي لمثل هذا المكان أن يحظى بهم. وهكذا خسر الشيخ عبد الكريم، بسبب الشيخ أسعد، أرغفة الخبز، وأعداداً من البيض المسلوق، ومواد غذائية أخرى كان يتقاضاها أجراً، بمثابة رسوم تعليم..! لم يكن أبي قاسياً تماماً، لكنه كان حازماً، فما أن غادرنا الكتَّاب، في ذلك الصباح، ثم يممنا شطر المدرسة الحكومية، استجابة لرجاء أمي، حتى أخذ يحادثني، لكأنما يحاول التسرية عني، أو إشعاري برضاه علي، لا أدري. مررنا بدكان البقالة لصاحبها (أبو العبد الرملاوي) الذي سرعان ما هب واقفاً، ليرد تحية الصباح بحفاوة واضحة، داعياً أبي لمشاركته تناول القهوة. ثم مررنا أمام دكان الحلاق (أحمد الجمل). وكان هذا منهمكاً برش الرصيف أمام دكانه بالماء، وذلك على الرغم من مطر الليلة المنصرمة. انعطفنا يميناً لنطل على الطريق العام. سألني عن موعد الامتحانات المقبلة في المدرسة. ثم ربت على كتفي، وهو يشدني بيده من كتفي البعيد عنه، كي التصق به، وهو يقول: - اذا كان ترتيبك جيداً فلسوف أشتري لك حذاء جديداً..! لم تكن فرحتي، عند ذاك بالهدية الموعودة بقدر ما كانت من أجل انفراج أسارير أبي. واصلنا سيرنا المتعرج تبعاً لانعطافات الطريق. رائحة التربة المبللة بمطر الليلة الماضية تنبعث نقية نفاذة، وهدير البحر خافتاً يأتي من بعيد، وغيوم تباينت ألوانها ما بين بنفسجي رقيق، ورمادي داكن تتراكم عند الأفق الغربي. كنت أرقب السحب وهي تسبح من فوقنا، فأنشغل بها لحظات، عن الطريق والمدرسة. أتصورها أشكالاً خرافية عجيبة كتلك التي تتراءى لنا في الأحلام. تنبهت إلى جلبة وصياح، سرعان ما تبينت مصدرهما. كنا قد بلغنا الطريق العام، نوشك أن نقطعه إلى الطرف الآخر، حيث السوق ثم المدرسة. الناس يتحركون في ذعر. سيارات عسكرية تعبر الطريق مسرعة، ثم تنتشر في اتجاهات مختلفة. بعضها يتوقف، وبعض يتابع السير فيما الجنود يقفزون منها في كل اتجاه. انطلقوا يصيحون بالمارة وبمن هم في المقاهي مشرعين بنادقهم وحراباً لامعة في مقدماتها تثير الرعب. توقف أبي عن السير. بدا عليه القلق. تمتم بصوت خفيض: - الانكليز.. يافتاح يا عليم.. نعود يا بني إلى البيت.. لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم..! وعلى حين غرة أخذوا يطلقون الرصاص في مختلف الأنحاء. اجتاحني الذعر. اقتربت من أبي ألوذ به.. سمعت عنهم في المدرسة، وفي كل مكان لكني لم أرهم رأى العين في مثل هذه الحال قبل ذلك. صرخت في فزع: - نعود يا أبي .. وفي ذات اللحظة رأيته يضع يده على صدره، تجحظ عيناه.. يرتجف.. الدماء تنبثق من صدره.. تفلت يدي من قبضته.. يترنح.. يتهاوى.. يسقط.. يعقد الذهول لساني.. يا إلهي.. هذه اللحظة كنت أسمع صوته.. ارتميت فوق صدره ..أضمه.. ألتصق به - أغمره بالدموع.. أصرخ بجنون: .. يابا.. يابا .. وجرس المدرسة يدق وسط زخات الرصاص آتياً من مكان سحيق. - 3 - وقفت أمي قرب باب الدار مع من تجمع من الجارات إثر سماعهن أصوات الرصاص، وصياح الصبية الذين اندفعوا يتراكضون خلال الأزقة. أدركن للتو أنها عملية انكليزية أخرى. استوقفن واحداً من الغلمان، فأنبأهن بأن الانكليز قد أطلقوا الرصاص على الناس في المقاهي والطرقات والسوق.. إنهم يطلقون الرصاص في كل مكان.. أخذن يتساءلن في توجس وقلق عن السبب الذي دعا هؤلاء إلى اقتراف جرائم جديدة في قريتهم في هذا اليوم، خمنت إحداهن قائلة: - ربما كان ذلك بسب نسف الثوار للخط الحديدي بالأمس على مقربة من القرية . عقبت أخرى بسخرية: - ومتى كان هؤلاء ينتظرون سبباً يبرر ارتكاب الجريمة التي يريدون يا حبيبتي .. تدخلت ثالثة : - إذا كان الأمر كذلك يا أم مريم فلسوف تأتي اليوم الانذارات بالعقوبات الجماعية التي ابتكروها.. سيفرضون علينا عقوبات فادحة هذه المرة غرامات وجزاءات أيضاً.. قالت أم مريم باستنكار : - وهل بقي لدينا ما نقدمه يا فاطمة ؟ - من قال لك، يا حبيبتي أن (إنسانيتهم) سوف تجعلهم يقدرون ظروفنا ..؟ - ولكن أليس هذا هو الظلم بعينه؟ الفاعل واحد أو اثنان أو ثلاثة، فما معنى أن يؤاخذ الجميع..؟ هذا إن كان ما فعلوه جريمة حقاً ..! قالت (أم سعيد) وقد ظلت صامتة طوال الوقت : - تتحدثن عن الظلم والظالمين، يا نور عيني، ووجودهم هنا، هو منتهى الظلم. بأي حق هم هنا أصلاً ..؟ سادت لحظات صمت. مضت كل واحدة منهن تضرب أخماساً في أسداس، بينها وبين نفسها، إلى أن عبرَّت أم مريم عما كان يساورها من قلق: ترى من هي المسكينة التي حلت بها المصيبة في هذا النهار ؟ ردت أم عدنان في صوت خافت تشوبه نغمة حزن طال بها العهد: - كما ترين. نربي أبناءنا الأيام والسنين.. نفني أعمارنا في تنشئتهم يوماً بيوم، ساعة بساعة.. نبني عليهم آمالنا العريضة.. نود لو نفديهم بأرواحنا إذا أصابهم مكروه.. ثم نفقدهم في طرفة عين.. يد غريبة تجيئ من أقصى الأرض، تضغط على الزناد، وينتهي كل ما بيننا..! أطرقت النسوة إجلالاً لأم عدنان التي سبق لها أن فقدت ولدها عدنان في ظرف مماثل منذ شهور قليلة ومابرحت تتشح بالسواد . - إنهم.. هكذا.. ببساطة متناهية يسلبوننا حق الحياة، ولا يحاسبهم أحد. - من أجل ذلك قامت الثورة يا عزيزتي. هي التي ستأخذ على عاتقها أمر حسابهم . قالت أم سعيد، لنفسها وهي تستمع إلى رفيقاتها، أنها سوف تطلب إلى (أبو سعيد) فور عودته، أن يقلل من خروجه منذ اليوم، ما دامت الاستهانة بأرواح الناس قد بلغت هذا الحد. لكن خوفاً غامضاً يسري في أعماقها. بل إنها تحس بذلك الشيء المبهم يلم بها منذ أيام، دون أن تعرف كنهه أو تجد له تفسيراً. حتى أحلامها كانت في الأيام الأخيرة كوابيس مرعبة. وهي من ثم، تلعن الشيطان تارة، وتعوذ بالرحمن، تارة أخرى، مؤملة ألا يكون مبعث ذلك الانقباض سوى كآبة عارضة لن تلبث أن تزول، أو بسبب مرض خفي يلم بها لم تتبين ما هيته. آه ليت الأمر يكون كذلك..! أو هي تلك الأحداث التي تسود البلاد فتقبض النفس. تحاول التخلص من ذلك الشعور الممض بالجنوح إلى التفكير في المستقبل، وبما يمكنها أن تتخذ من أسباب الحيطة - في نطاق صلاحياتها المحدودة - بما يضمن سلامة أبنائها، وأبيهم . أصوات هادرة تترامى عن بعد. تقترب رويداً.. تتعالى.. تتضح معالمها أكثر فأكثر، إلى أن تتحول إلى هدير مرعد. جمهور غفير تبدو طلائعه عند ناصية الشارع. يهرع الأطفال من البيوت المجاورة على جانبي الطريق، يرفدون الموكب بانضمامهم إليه، فيكبر، ثم يكبر، حتى يضيق بهم الزقاق. همت عائشة (أم سعيد) بأن تنادي أحدهم كي تسأله عن ذلك الشهيد المحمول على الأكف والأكتاف. غير أنها أمسكت حين رأت غلاماً يهرول نحوهن، وهو يصيح بأعلى صوته، وكأنه يعلن بشارة سوف ينال عليها مكافأة : - الانكليز.. قتلوا عم سليم.. أبو سعيد ..! شق الفضاء صراخها المروع فيما هي تندفع نحو الجموع، والنسوة اللائي ذهلن للحظة، أمسكن بها لمنعها من اقتحام الموكب، وهي في حالة تشبه فقدان الوعي. يخرج من بين الجمهور شقيقها (رمضان) متصدياً لها، محيطاً إياها بذراعيه، زاجراً ومناشداً : - قضاء الله الذي لا مفر منه.. إنه شهيد يا أختاه.. هنيئاً له.. كفى.. كفى بالله عليك.. أنت عاقلة ياعائشة.. إنه قدره.. ! تصرخ في التياع : - المجرمون.. قتلك المجرمون.. ويلهم من الله.. أين ولدي.. أين أمين ؟ هتف رمضان كي يُسمعها.. وربما ليسكتها : - أمين بخير.. أقسم لك أنه بخير.. كنت في تلك اللحظة أهرع إليها.. أرتمي في حضنها.. يهزني النشيج هزاً، كأني ألتمس في حضنها عودة أبي للحياة.. شعرت كأني غبت عنها دهراً.. وها أنذا أعود. طفقت تضمني إليها بعنف.. تقبلني بجنون، كأنها لا تصدق أني بين يديها. غمرت وجهي دموعها.. اختلطت دموعنا معاً، وهي تغمغم بكلمات تضيع بصوتها المبحوح بين البكاء وأصوات الجموع الغاضبة . تبين أن عدد قتلى ذلك الصباح خمسة، والجرحى ضعف هذا العدد. شيعوا جميعاً في جنازة واحدة، تحولت إلى مظاهرة تندد بالجناة، وتطالب بالاستقلال وسقوط بلفور..! حال بعضهم بيني وبين مشاهدة القبر ساعة الدفن. دعينا مع حشد من الناس إلى الغداء في بيارة أبو جبريل النجار، حيث ذبحت الخراف، وقدم طعام كثير للجميع. في (بواطي) ملأى بالأرز واللحم والرجال لا يكفون عن الحديث حول الحادث وحوادث أخرى كثيرة سبقته في قريتنا، كما في غيرها. في دارنا واصلت النساء إحضار الطعام، ومواد أخرى كالسكر والقهوة والأزر. ولا يزيد ذلك أمي إلا حزناً وألماً وبكاءً. طفقن يعزينها بكلام كثير. يضربن الأمثال، ويرددن الحكايا من حوادث الأيام الغابرة والراهنة . صبيحة اليوم التالي لتشييع جثمان أبي، وضعت لنا أمي على (الطبلية) فطوراً من البيض المسلوق والزيتون وخبز الطابون، وصحناً من العسل. هذا الأخير كان مما جاءت به الجارات. لم يكن العسل طعاماً مألوفاً لدينا في وجباتنا المعتادة. دار الجمل يتناولونه، ودار ابو عون وغيرهم من اثرياء القرية، أما نحن..؟ أُحسُّ بفراغٍ يحتلُّ مكان أبي، حيث كان يجلس بيننا، ونحن من حوله.. لكن ها هو ذا أمامي في مكانه المعتاد. صغيرتنا علياء تقبع في حجره. يضحك لها.. يضمها إليه.. يمسِّد شعرها.. يضع اللقمة في فمها بعد أن يغمسها بالعسل.. تسمَّرت يدي في مكانها قبل أن تبلغ الطبق. انفجرت بغتة باكياً، بصوت ارتاعت له أمي الجالسة قريباً منا مع جاراتها، فأقبلت مسرعة، تاركة النسوة اللواتي ملأن المكان صخباً. تبعنها سراعاً. واحتضنتني أمي وبصوت مبحوح : " مالك يمَّة.. " انفجرت علياء أيضاً تنشج بصوت عالٍ. بادرت خالتي الى حملها.. تلصقها بصدرها.. تهدهدها.. تقبلها وهي تردد بصوت يخنقه البكاء . ".. مالك يا حبيبتي.. اسم الله عليكِ.. الله يجازي أولاد الحرام.. أبوكِ مسافر بكره ييجي ياحبيبتي ... أبي يرمقنا بعينين حزينتين.. يمضي بعيداً يتلاشى في الغمام المائل مابين عينيَّ والسماء.. - 4 - ران على المنزل سكون حزين. أقيم فيه الحداد. ارتدت أمي ملابس سوداء أضفت عليها مزيداً من الجلال والمهابة. أنظر إليها فأكاد لا أعرفها لفرط تغيرها. فقد علا وجهها شحوب ينم عن حزن كظيم. ذبلت عيناها، وفارقتها ابتسامتها العذبة، وتوارث خصلات شعرها الفاحم التي كانت تزيد من نضارة محياها، تحت منديل أسود، قلما تزيحه عن رأسها . اعتكفت في بيتها لا تبرحه. وبدت منطوية على نفسها تبثها الحزن والشجن. زاهدة في لقاء الناس أو التحدث إلى أحد. لقد أمست أرملة، وهي لما تزل في ريعان صباها. " أرملة..! يا لها من كلمة كئيبة. لم تحسب يوماً أنها سوف تحملها لقباً أبدياً. ولكن ها هي ذي منذ اليوم سوف تحمل من هموم الحياة وأعبائها ما لم يكن يخطر لها على بال. كان سليم يملأ عليها حياتها، بشخصيته القوية الآسرة. تشعر في كنفه بالحماية والأمن. لقد ذهب الآن، تاركاً إياها منكسرة القلب والجناح، مع أطفالها الأربعة، لكأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميها كعهدها بها فيما سلف. بل إن الكون كله يبدو الآن موحشاً مخيفاً، وكأنه قد خلا من كل شيء" . لم يترك لنا الشيء الكثير، اللهم إلا هذا المنزل العتيق. لم يكن سيئاً، على أية حال. غرفتان تمتد أمامهما شرفة. هي في الواقع مصطبة مرتفعة مدت بالأسمنت الأسود. وقد بني البيت من الحجر الرملي، المتوافر في محاجر القرية مجاناً لمن يشاء. أما السقف فمن القرميد الرمادي. وقد ارتفعت أرضها جميعاً عن سائر فناء الدار، فبدت منها أزقة القرية المنخفضة عن مستواها، والمنازل القديمة المفضية إلى البيادر، التي تبدو عن بعد وسط نطاق أخضر من بيارات البرتقال. وقد اعتاد الفلاحون جمع محاصيلهم من القمح والذرة في تلك البيادر، حيث يدرسونها بواسطة الدواب، فيما تتردد أصواتهم بأهازيجهم ومواويلهم، يقطعونها بين آونة وأخرى، لينتهروا دوابهم ويحثونها على مواصلة السعي. فضلاً عن هذا كان بيتنا ينطوي على شيء غير قليل من العلل. من ذلك أن بعض قرميده قد تشقق أو تكسر منذ زمن، مما يتيح لقطرات المطر التسرب إلى داخله. أما جدرانه فمتآكلة، ذهب طلاؤها وبعض طينها. كما أن فناءه حافل بالحفر. صحيح أن أبي كان يزمع ترميمه منذ سنين، إلا أنه كان يرجئ ذلك من الشتاء إلى الصيف، عاماً بعد عام، منتظراً أن يأتيه الله برزق يوسع عليه بعض الشيء، يمكنه من إصلاحه مرة واحدة. بيد أن توقيت الأجل كان الأسبق. كما نملك أيضاً قطعة أرض صغيرة، في منطقة (أم الذهب) وقد أسموها كذلك - فيما يروى - لخصوبتها ووفرة محصولها. كانت تزرع قمحاً في عام وذرة في العام الذي يليه، تبعاً لتقاليد الفلاحين المرعية في هذا الشأن. ليس معنى هذا أننا كنا نحسب في عداد الفلاحين أو الملاكين الموسرين. بيد أنها كانت تقينا الحاجة و العوز. ولم يكن أمر تعهد الأرض بالأمر الهين، لا سيما أن والدي لم يكن يمارس مهنة الفلاحة بنفسه. كان يعهد بها إلى (مرابع) هو العم عبد الغني، لقاء حصة من نتاجها. أما عمل أبي فقد كان موسمياً، شأنه شأن الكثيرين، في فصل الشتاء، موسم قطاف البرتقال . كانت أمي في ذلك الصباح منشغلة البال. فلقد خلت إلى نفسها تماماً، لأول مرة، عقب انقضاء أيام العزاء بضجتها و زحمتها. أحست كمن يهبط من قطار بعد رحلة طويلة مضنية، والطنين لا يزال يصم أذنيه. انصرف الناس - بمن فيهم الأقارب - كل إلى شأنه. لا ريب أنهم سوف يذكرون محاسن الفقيد من آن لآخر، لاسيما في المناسبات العامة، كالأعياد مثلاً، إلا أنهم سوف ينسونه، بالتأكيد، على مر الأيام. أما هي فاليوم تبدأ مأساتها الحقيقية. وهي التي لن تنسى قط. بل إن مرور الأيام لن يزيدها إلا حنيناً وشجى لذكريات عزيزة خلت، امتزجت بدمها وروحها، وأضحت جزءاً من حياتها وكيانها. من ثم، فهي سوف تتمثلها بحجمها الحقيقي في كل لحظة منذ الآن، وتعيشها في أحلام يقظتها على الدوام. أفاقت من هذه الدوامة على واقعها المرير، الذي لا علاج له، حتى ولا بالصبر الذي كانت الجارات يتحذ لقن فيوصينها به. على الرغم من ذلك حاولت أن تصرف نفسها عن أحزانها - ولو إلى حين - كيما تفكر فيما سوف يؤول إليه أمر بنيها من بعد. قفزت إلى ذهنها صورة أكبرهم (سعيد) لكنها ما أن تذكرته حتى أصابها القنوط. قطبت جبينها، واكفهر وجهها، وألمت بها مشاعر الأسى من جديد : ".. صحيح أنه قد بلغ الثالثة عشرة من عمره، وأنه يمكن أن يعمل عند بقال، أو حلاق، أو فران - لكنني لا أنتظر منه خيراً كثيراً.. ولد شقي منذ طفولته.. أدخلناه المدرسة فهرب منها وأذاقنا الويل.. أجل كان يهرب من المدرسة، ليقضي سحابة نهاره بين الحقول مع مثيل له من رفاقه الملاعين.. يكسِّر أغصان الأشجار.. يسرق البرتقال من بيارة العطار لكي يتخذ من حباته كرة يلعب بها.. يتسلل عبر السياج فيأتيني بثيابه ممزقة.. يتعلق بالسيارات العابرة التي أو شكت إحداها أن تدوسه ذات مرة في طريقها من يافا إلى غزة..! ".. تصورنا أول الأمر انها مجرد نزوة عابرة.. (ولدنة).. وأن الأيام كفيلة بإصلاحه .و لكن الأيام لم تزده إلا شقوة كلما شب ونما. ".. أخرجناه من المدرسة ليعمل عند (ابو درويش) الوافد من يافا، ليفتح دكاناً للحلوى عند السوق، قائلين أن (الصنعة) خير وأبقى له من دراسة لا يرغب فيها ومن أجل مستقبله قلنا (صنعة في اليد أمان من الفقر). ولكن شكاوي الرجل بدأت تصلنا تباعاً. كان آخرها قبل أيام، وهي بمثابة إنذار بالفصل، إذا ما وجده يعود للعب الورق مع بعض أترابه، في عقر حانوته أثناء غيابه عن الدكان.. ".. فإذا كان هذا شأن سعيد، يوم كان الأب الصارم فوق رأسه، فكيف به اليوم وقد غدا بغير حسيب و لا رقيب ..! خطر لها ثاني أبنائها أمين. الولد العاقل المتزن - كما كانت تدعوه - هادئ وديع. حتى ليبدو أكبر من سنه التي لم تجاوز الثامنة. وهي راضية عن سلوكه. إذ هو على النقيض من أخيه الأكبر تماماً. ولربما كان الفضل في هذا لذلك الأخ نفسه - وإن يكن عن غير قصد -. كان يؤلم أمين أن يرى ما يحيق بأبويه من كدر بسبب أخيه، فجاءت تصرفاته مختلفة عنه. وكان في ثناء أبويه الدائم عليه، فضلاً عن إطراء الجيران له ما يدفعه إلى العمل على إرضائهما . لم يكن هذا - على أية حال - مدعاة لتخفيف آلام عائشة، وإنما كان سبباً آخر يضيف إلى أحزانها الشيء الكثير. إنها حزينة من أجله لأنه كذلك. ولما يعنيه فقد أبيه في سنه المبكرة هذه من تغيير في مسار حياته المقبلة، في اتجاه مستقبله برمته. لقد خطت الرصاصات المجرمة بالدم النازف طريق مستقبلهم جميعاً . " أما أحمد فما الذي ينتظره هو الآخر..! كان ممكناً أن يشب في أحضان أبويه، شأنه شأن أي طفل في هذا العالم. كان ذلك ممكناً تماماً، لو لم تبتلنا الأقدار بهؤلاء الانكليز.. ولكن ما ذنبه هو؟ وأيُّ يدٍ أو خيارٍ له في هذا الذي يجري من حولنا ..؟ ".. وعلياء الأثيرة عند أبيها، ربما لأنها الوحيدة بينهم، فضلاً عن أنها أصغرهم. من يأتيها، بعد اليوم (بحلاوة) أبو درويش، (وملبَّس) أبو العبد الرملاوي في المساء؟ تهرول عندما تراه قادماً عند ناصية الزقاق، فتلقي بنفسها بين أحضانه، وهو يجلس القرفصاء في انتظار وصولها إليه. تناغيه بكلمات غير مفهومه.. لكنها حلوة.. كالعسل.. كما يقول ...! " وهي تعرف دالتها عليه، فتصر على الجلوس في حجره، تعبث بأطراف عباءته، أو تخطف مسبحته، وتدخلها كالقلادة في رأسها، وعندما تعلق بشعرها الكستنائي الغزير تشرع في الصراخ، فيما هو يضحك جذلاً، لأنها تكرر ذلك كل يوم دون أن ترعوي ...! دلف أمين إلى المنزل في تلك اللحظة، متأبطاً كتبه ودفاتره. تجلدت. أمسكت دموعها التي أوشكت أن تنهمر. وتكلفت ابتسامة تواري بها مشاعرها. لكن مسحة الحزن على وجهها الممتقع، وفي عينيها الذابلتين، لم تفلح في إخفاء مكنونات صدرها .قالت أخيراً بصوت خافت مبحوح : - وكَّلت أمري إليك يارب.. على رأي الحاجة : العبد في التفكير والرب في التدبير.. وكَّلت أمري إليك.. أنت حسبي ونعم الوكيل . - 5 - السابعة صباحاً. والشمس قد ارتفعت في الأفق تنبئ عن نهار قائظ. تحلق أفراد الأسرة الصغيرة حول (الطبلية) يفطرون. أرغفة الطابون، جبن وزيتون وزعتر في (حذار أنت مراقب،..ادي) من الفخار. وإبريق صيني أزرق يتعالى بخاره، حاملاً رائحة الشاي والميرمية. بدت والدتي عابسة الوجه مقطبة الجبين، وإن كان واضحاً أنها تتصنًّع التجهم، في محاولة منها لتهيئة جو ملائم من أجل إبداء ملاحظات زاجرة، المقصود بها - قطعاً - أخي سعيد. ولما كان ذلك يتكرر منها بين حين وآخر، فقد بتنا قادرين تماماً على التمييز بين جدِّها المصطنع، وجدِّها الحقيقي، حينما ترى هي ضرورة لذلك . وفيما نحن ينظر أحدنا إلى الآخر، نحاول جاهدين أن نكتم ضحكاتنا التي توشك أن تنفجر، وقبل أن تبدأ تقريعها، طرق باب الدار على نحو يوحي بأن الطارق في عجلة من أمره. ذهب سعيد ليرى من بالباب، ثم عاد ومعه فوزي ابن خالتنا، ورفيقي في المدرسة. بدا فوزي على غير ما اعتدنا أن نراه : محتقن الوجه، منكوش الشعر، في عينيه آثار بكاء، تشير ثيابه إلى أنه ارتداها على عجل. بادرته والدتي بالسؤال ملهوفة وقد توجست، بحسها الفطري، لهذه الزيارة في هذا الوقت المبكر : - ماذا يا فوزي؟ خير إن شا الله يا خالتي ..؟ أطرق هذا إلى الأرض. وبدا كأنه يوشك أن يجهش بالبكاء. ولما لم يحر جواباً، نهضت إليه، واقتربت منه، تحتضنه في حنو قائلة وقد ألم بها الوجل : - ماذا هناك يا فوزي.. لماذا لا تتكلم يا خالتي .؟ هل حدث شيء عندكم؟ رد فوزي بكلمات متقطعة يخنقها البكاء الخافت : - محمد.. خطيب أختي فاطمة.. أحضروه الآن مقتولاً ..! - مقتولاً.؟ تقول مقتولاً..؟ ومن قتله؟ - يقولون انه كان في الليلة الماضية مع الثوار الذين هاجموا محطة رخبوت. انطلقت أمي مسرعة إلى الغرفة المجاورة تبحث عن شالها وجواربها، فيما هي تصب اللعنات، على الانكليز، ويوم الانكليز. فيما اسئلتها المرتبكة تتلاحق بغير انقطاع دون أن تنتظر رداً عليها. ذهبت مع فوزي بعد أن أوصتنا بعدم الخروج من المنزل أثناء غيبتها . تحايلت على سعيد ومضيت في إثرهما. وحين رأتني لم تقل شيئاً. تسللت بين جمع غفير من النساء اللواتي انتظمتهن حلقات في منزل خالتي (نعمة). انخرطن في البكاء، ولكن في حذر واضح، خشية أن ترتفع أصواتهن فتبلغ الشارع. وقد أغلقت نوافذ المنزل وبوابته، حتى تلك المفضية إلى الحاكورة، كيلا ينكشف أمر الشهيد، وانتماؤه لهذه الأسرة، من قبل الدوريات الانكليزية التي ما فتئت تجوب الطرقات منذ الصباح الباكر. ذلك أن آثار الدماء والكلاب البوليسية قادتهم إلى مشارف "يبنا"، ثم ما لبثت أن اختفت قبل التعرف إلى مستقر صاحبها، من ثم لم يعرفوا هويته. وما من أحد يعلم، ما هي الاجراءات الانتقامية التي سوف يعمدون إليها هذه المرة. انتقلت إليِّ عدوى الشعور بالحزن. تذكرت (محمد المغاري) ذلك الشاب الذي كان يداعبني، بل ويمنحني قرشاً كلما التقيته في منزل خالتي. كان طويل القامة، مهيباً، أسمر الوجه، له شاربان دقيقان، وقد عقفا إلى أعلى، كذيل العقرب، عند طرفيهما. عيناه حادتان كعيني صقر. يرتدي كوفية بيضاء يطوقها عقال أسود. يمشي منتصب القامة شامخ الرأس، وهو يضم أطراف عباءته السوداء، فيبدو كأمير شرقي في حكايا ألف ليلة وليلة. هل مات هو الآخر ..؟ إنهم يقتلون أحباءنا وأهلنا دائماً ..! الدار تغص بالنساء. لغط يختلط بالبكاء هنا والعويل هناك. كلام كثير غير مفهوم تتبادله النسوة. وعديد من الأطفال والغلمان ينسل بينهن كالسهام في إثر بعضهم بعضاً. فرصة لابأس بها للعب..! صبَّية بيضاء، مكتنزة الجسم ترتدي ثوباً أسود مطرزاً بخيوط حريرية ملونة على الصدر، يغلب عليها اللون الأحمر. وعلى رأسها شال أبيض ينسدل حتى منتصف ظهرها. قالت رداً على تساؤل رفيقتها النحيلة السمراء، التي تختلف عنها في كل شيء تقريباً، عدا ثوبها : - ... في مستعمرة رخبوت .. ردت الأخرى، مصححة : - يقولون في المحطة، وليس في المستعمرة ذاتها . - لا أدري.. ولكن ما الفرق؟ المهم أنه استشهد.. رحمة الله عليه .. يقولون ان شاباً آخر من القبيبة استشهد معه.. تنهدت الفتاة وهي تضرب كفاً بكف، مرددة بلهجة يمتزج فيها الاستنكار بالأسى: - يا خسارتك يا محمد المغاري ..! - لم يفرح بشبابه بعد .. - وهل ترك لنا الانكليز أفراحاً ؟ - والمسكينة فاطمة. انظري إليها هناك.. يا لحظها التعس .. - ألا تعلمين أنها مجنونة بحبه ..؟ - أعرف ذلك. لقد سبق أن خطبها كثيرون قبله، لكنها رفضتهم جميعاً. - تعنين أنها كانت تحبه حتى قبل أن يقرأوا فاتحتها ..؟ - هل هذا وقته يا سهام ؟ - أنا لا أقصد، لكن صدق من قال (إجت الحزينة تفرح ما لقيت لها مطرح) ..! - ماذا تقصدين إذن ..؟ ثم لم لا تحبه؟ إنه شاب ممتاز في كل شيء. وهو شجاع لدرجة المخاطرة بحياته.. وها أنت ترين .. - كان الله في عون أمه .. - وفاطمة ..؟ - فاطمة تنسى مع الأيام. وهي جميله لن تعدم من يتقدم لطلب يدها غداً ..! تعالت في الخارج أصوات، وقامت جلبة. توجهت نحو باب الدار مستطلعاً. كان هناك عدد من الجنود الانكليز يدفعون برجال من أهل القرية أمامهم، وقد سددوا بنادقهم إلى ظهورهم، يصيحون برطانتهم العجيبة، وكان واضحاً أنهم يكيلون الشتائم ويطلقون التهديد والوعيد ..! ذلك (أبو حسين الشرقاوي) بينهم. وهذا (أحمد الجمل)، وذاك (ابو داود) صاحب مقهى (الاستقلال الوطني). ولأن هذا الأخير يمت لوالدتي بصلة قربى، كنت أعرف أنه من الثوار. لقد كانت لهؤلاء الرجال صورة مثالية من البطولة والهيبة في مخيلتي. أحس أن شرخاً أصابها ..! تساءلت في حيرة : .. لم لا ينقضُّون على أولئك الجنود الذين لا تبدو عليهم امارات شجاعة خارقة؟ بل إن مظهرهم لا يوحي بالبطولة و لا بالشجاعة أو حتى بالرجولة. الخوف بادٍ على وجوههم بجلاء، على الرغم من البنادق التي في أيديهم. لا أعرف أسباب هذا الذي يجري ودواعيه. لماذا يجب أن يعاني الناس هكذا؟ أن يموتوا؟ أن يهانوا؟ أن يفقد الأطفال آباءهم ...؟ أولئك هم يبلغون الطريق العام، حيث وقف رتل من السيارات العسكرية على جانبي الطريق. يأمرونهم بالصعود إليها في خشونة وعنف فيصعدون. ترى إلى أين يمضون ..؟ بل ماذا سيصنعون بهم؟ ولأني كنت أفكر بصوت مسموع، فسرعان ما سمعت الرد يأتيني من رفيق لي كان قريباً مني: - سينقلونهم إلى المحطة.. وهناك يقتلونهم ..! يوقفونهم على الجدار ويطلقون عليهم الرصاص ..! - كيف؟ ولماذا ؟ لا أدري.. ولكنهم هكذا فعلوا منذ ايام في قرية "عاقر". هذا ما سمعته من أبي وهو يتحدث إلى جارنا (ابو شاكر). - وهل يقتلون، كل هؤلاء الناس ..؟ هكذا ببساطة ..؟ لم يحر رفيقي جواباً. ولكنه عاد بعد قليل ليقول، وكأنه يزف بشرى سارة : - أسمعت؟ قيل انهم وضعوا علامات على بعض المنازل والدكاكين والمقاهي لكي يقوموا بنسفها بعد أيام.. ربما غداً.. لا تدع تلك الفرجة تفوتك ..! دوت أصوات المحركات في هدير مخيف زاد الجو المكفهر كآبة، شعرت بالحزن والأسى والمهانة معاً، فيما كانت السيارات تنطلق، إلى أن اختفت وراء سحابة من الدخان الكثيف . مرضت علياء في ذلك المساء. عزت (الحاجة خضرة) سبب مرضها إلى افتقادها لأبيها . قالت أم مريم بعد أن وضعت كفها على جبين علياء : - البنت (سخنانة) يا جماعة.. حرام عليكم خذوها للحكيم . غمغمت أمي كمن يتحدث عن مستحيل : - حكيم ..؟ أي حكيم ..؟ أنفقنا أياماً ثلاثة، كما لو كنا في حالة طوارئ. وحالة علياء تزداد سوءاً. تصف كل من الجارات، شيئاً مختلفاً، مؤكدة أن وصفتها هي (الشافية) بإذن الله. تنفذ أمي نصائحهن جميعاً أملاً في وقوع معجزة. وهي لا تكف عن الدعاء وتلاوة ما تحفظ من آيات القرآن الكريم . | |
|
ramzi.naili شخصية أولاد بريش
عدد المساهمات : 254 نقاط : 6282 الســــــمعة : 23 تاريخ التسجيل : 18/02/2009 العمر : 37
| موضوع: رد: رواية قبل الرحيل //////////// سانقلها ... مجزءة ... السبت نوفمبر 07, 2009 2:02 pm | |
| 6 - أمضيت معظم أيام العطلة الصيفية، في ذلك العام، في اللهو مع أترابي حيث نقضي سحابة نهارنا نلعب في ساحة (سيدنا وهب) الكرة، و الدحل، و الاستغماية. أو نصنع طائرات الورق الملونة، أو في تلبية طلبات أمي التي لا تنتهي. ولقد عجبت كيف كانت تؤديها كلها بنفسها أثناء وجودنا في المدرسة. فهي توفدني إلى الجارة " أم ماهر" لأحضر لها مقلاة، أو إلى "أم على" كيما أنقل إليها رسالة شفوية، أو إلى دكان " ابو العبد" لشراء رطل ملح أو علبة كبريت أو استعارة قدر من بيت الحاجة خضرة ..! ظل الحال هكذا إلى أن وقع لي حادث غيَّر مجرى تلك الحياة الرتيبة . لا بد لي - بهذه المناسبة - أن أسجل أن ترتيبي في المدرسة كان الثاني، قريباً مما أراد أبي. فملأني الزهو، وأحسست أنه (أي أبي) يبتسم لي من عالم الأبدية. وزادت نسبة مشاجراتي مع أبناء الحي بعد أن شعرت - أو شعروا هم - بتفوقي عليهم ..! وحين تذكرت أبي ذلك المساء وفرحه بنجاحي لو كان حياً. بكيت بحرقة، وغطيت رأسي بالفراش كيلا تلحظ ذلك أمي جاءني من بعيد، وئيد الخطا مشرق المحيا، ابتسم لي وهو يضمني إلى صدره. ربت على ظهري، مسح رأسي بكلتا يديه، أمعن النظر في وجهي. قبلني. ثم استدار ليمضي عني، أصيح بصوت لايخرج من حنجرتي ضارعاً اليه أن يعود. لكنه يمضي متوارياً بين أشجار كثيفة عالية تلامس صفحة السماء ... ! خرجت يومئذ لقضاء شأن من تلك الشؤون التي كانت تكلفني بها والدتي. وبدلاً من أن أعود في غضون خمس دقائق، هي الوقت الذي يقتضيه ذلك الشأن، عدت بعد انقضاء خمس ساعات كاملة. لم تدع مكاناً دون أن تبحث عني فيه. سألت كل الجارات، والمارة. أرسلت في أثري رفيقي "صالح" الذي لم يمنعه من القيام بذلك الواجب مشاجرتي معه البارحة. ذهبت بنفسها إلى محل "ابو درويش" الحلواني. لعل سعيداً يعرف شيئاً عني. بل أوشكت - حين بلغ بها القلق مداه - أن تبحث عن (المنادي) كيما يعلن في الحارات القريبة والبعيدة عن (الولد الضائع). غير أنها فكرت - كآخر سهم في جعبتها - بأن تذهب إلى منزل خالتي نعمة عند " سوق الجميزة". وما أن رأتها شقيقتها حتى أقسمت عليها أن تتناول الغداء عندها، مطمئنة إياها بأن " الولد " لن يلبث طويلاً حتى يعود من تلقاء نفسه. ولكن أمي الملتاعة ردت بحنق ظاهر : -(بالك فاضي وعيشك راضي يا نعمة.. أقعد عندك أتغدى والولد ضايع؟) ردت خالتي بصوت ممطوط، لا يوحي بعظيم أكتراثها - كما ينبغي - لغياب ابن شقيقتها الأثير، مما أثار المزيد من حنق أمي حين قالت : - لا بد أنه يلعب الآن مع أمثاله الشياطين، وأنت هنا تتقلبين على جمر ..! استهدي بالله يا شيخه ..! صدق من قال قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر..! - لا إله إلا الله. يا حبيبتي يمكن يغيب الولد ساعة زمن أما خمس ساعات.. تصوري يا نعمة خمس ساعات. لا بد أنه صار له شي...! ). استبد بها القلق إلى حد أنها لم تتمالك نفسها من البكاء، ثم راحت تغلظ الأيمان بأنها سوف (تأكلني بأسنانها) حين أعود -كان هذا هو قسمها المفضل - ولكن المهم أن يعود أولاً..! كانت المهمة التي خرجت من أجلها صبيحة ذلك اليوم ولم أعد حتى العشاء، هي شراء بطيخة أولاً. ثم أمر ببيت خالتي أطلب إليها موافاة أمي في الغد، كي تساعدها على صنع ((المفتول)). رأيت الباعة وراء أكياس البصل، واكداس من سلال العنب، وسلال التين، (وسحاحير) البندورة والفلفل والباذنجان، وأكوام البطيخ الأخضر، والأصفر . وعلى الرغم من أن بضاعتهم جميعاً كانت بادية للعيان، ملفتة لكل الأنظار، وبوضوح تام، إلا أنهم كانوا يملأون المكان صياحاً بنداءاتهم، التي بدا لي أنه يغلب عليها طابع التضليل، فالكوسا تتحول - بقدرة قادر - إلى أصابع موز ريحاوي ..! و العنب إلى حبات ماس نادر، والبندورة إلى تفاح أمريكي أو شامي. مع أن أحداً لم يقل أن التفاح أكثر ضرورة من البندورة أو الخيار البلدي..! جمهور كبير يتجمع تحت الجميزة العتيقة التي قيل أنها عاصرت (سيدنا عيسى) عليه السلام. كان ظلها يمتد على مساحة شاسعة من الأرض، أتخذ منها الباعة مكاناً لسوقهم. اقتربت من ذلك الجمع. أحدهم يتحدث منفعلاً. أخذ صوته يعلو ثم يعلو حتى تحول إلى صراخ، ما لبث أن أعقبه هياج بين الحاضرين، الذين انطلقوا بغتة متجهين جنوباً على طريق الاسفلت، وهم يرددون هتافات وشعارات تندد بالاستعمار، والانتداب، واليهود، والهجرة اليهودية، ووعد بلفور، والمستر (دل)، ولجنة (بل) ..! لم أشعر إلا وقد وجدتني بينهم، وسط سهل فسيح يمتد حتى الأفق. عندئذ فقط أدركت أننا مشينا طويلاً حتى بلغنا هذا المكان . بدأ الخوف بنتابني. بيد أني أنشغلت عن خوفي حين رأيتهم يتعرضون لقافلة من الجمال، يوقفونها، ثم ينزلون حمولتها من سلال العنب، فيما صيحاتهم الغاضبة تتردد في جنبات السهل، أخذوا يدوسون محتويات السلال بالأقدام، في حين عمدت أنا وأمثالي من الغلمان إلى تخاطف عناقيد العنب الماسية، كحبات الكهرمان في السبحة التي كان يداعب جدي حباتها كلما أتى لزيارتنا...! طفق أصحاب الجمال يتوسلون، مقسمين بانهم كانوا في طريقهم إلى قرية (اسدود)، وليس إلى مستعمرة يهودية كما حسبوا. ولكن الجمهور الغاضب واصل تحطيم السلال، دون أن يلقي بالاً إلى توسلاتهم. بل إن بعضهم راح يكيل لهم اللكمات والصفعات، مندداً بهم، متهماً إياهم بخيانة الوطن والقضية، ما داموا لم ينصاعوا لقرارات اللجنة الوطنية القاضية بالامتناع عن التعامل مع اليهود، منذ أوائل الثورة عام 1936. مذكِّرين إياهم بالإضراب العظيم الذي امتد شهوراً ستة آنذاك، وأن إنهاء الاضراب لا يعني العودة الآن إلى التعامل مع اليهود . استغرق ذلك بعض الوقت. ولم أنتبه إلى حقيقة وضعي، وإلى مدى ابتعادي عن القرية، وأمي التي لا بد أنها أقامت الدنيا وأقعدتها إلا حين انتهت المعركة. أخذت أجيل بصري فيما حولي فلا أرى إلا سهولاً شاسعة ممتدة حتى الأفق في كل اتجاه، والشمس تسطع مرسلة شواظاً من نار، بعد أن انحدرت نحو المغيب، وطيوراً تحوم فوق رؤوسنا فرادى ورفوفاً، أو فوق عناقيد العنب المتناثرة على رقعة واسعة من الأرض، تنقض عليها ثم تطير محلقة في البعيد. خوف شديد يعتريني.. أين أنا ..؟ أين القرية؟ ما من أثر يبدو لها على مرمى البصر. وحشة قاتلة تكتنفني تماماً. وفجأة انتابني البكاء، لمحني أحدهم. اقترب مني. كان شاباً طويل القامة، مهدل الشعر، محتقن الوجه إثر الجهد الذي بذله مشاركاً في العملية التي تمت للتو. توسمت في عينيه عطفاً، وهو يربت على كتفي برفق قبل أن يسألني : - مالك يا شاطر ..؟ قلت بلهفة و وجل : أين نحن يا عم ؟ لا تخف.. نحن لسنا بعيدين جداً عن البلد. ولكن قل لي لماذا أتيت إلى هنا؟ - لا أعرف ..! - لابأس.. لابأس.. سوف أوصلك إلى أهلك.. ابن من أنت ؟ - ابن سليم جابر . - سليم جابر ..؟ رحمة الله عليه.. أعرف المرحوم والدك.. قتله الملاعين.. الله يجازيهم.. شعرت باطمئنان لذلك الشاب، وكأني نجوت من الهلاك.. بدت الشمس من بعيد أكثر اصفراراً فيما هي تنحدر نحو المغيب، حتى لامست أطراف الرمال الممتدة تلالاً وكثباناً في شريط يحاذي الأفق. ثم انكسرت حافة قرصها وهي تغوص إلى الأعماق، وبسرعة متلاحقة راحت تختفي إلى أن توارت تماماً، مخلفة في السماء شفقاً وردياً ما لبث أن استحال إلى دكنة خفيفة، ثم إلى ظلام يزحف على الكون، فيما كان صدري يزداد انقباضاً كلما تكاتف الظلام . مضينا نغذ السير في جماعات متفرقة، والشاب لايني يحاول التسرية عني، إلى أن لاحت عن بعد أضواء خافتة، فبشرني صاحبي بأنها أضواء القرية. كغريق تلامس الشاطئ قدماه، غمرني إحساس بالارتياح. رائحة أشجار البرتقال الأليفة، تعبق الجو من حولنا، في طريق خلال البيارات، وسياج أشجار الغيلان الذي بدا في الظلمة فاحماً . الأضواء تكبر، رغم خفوتها، فيما نحن نقترب. معالم القرية تتبدى أكثر وضوحاً. بلغنا مشارفها حين تناهى إلينا صوت المؤذن لصلاة العشاء يتردد في الأرجاء جميعاً، موحياً إليَّ بالطمأنينة والسكينه ..، ومشيعاً في نفسي السلام . - 7 - رأت أمي - إثر تلك الحادثة التاريخية - أن تجد لي عملاً مناسباً، أقضي فيه ما تبقى من عطلة الصيف. وبعد جهد غير يسير، تمكنت من أن توفر لي ذلك العمل، بتوسط من الحاجة سكينة، لدى زوج شقيقتها أحمد الجمل، صاحب دكان الحلاقة قريباً من ساحة سوق الثلاثاء . ابتهجت والدتي لنجاح مسعاها إذ كانت تأمل أن يتحقق لها، من وراء ذلك، هدف آخر، هو أن أكتسب (صنعة في اليد) تكون لي وللأسرة جميعاً (أماناً من الفقر) في مقبل الأيام ..! ولربما حالفني الحظ فغدوت حلاقاً مرموقاً. (وما ذلك على الله بكثير..! ) كان عملاً شيقاً لصبي مثلي. فعلي أن أكنس الدكان، وأرش الرصيف، ومساحة لابأس بها من الشارع أمام المحل، كل صباح وعند العصر، كيما يلطف الجو إذا ما هبت النسمات الغربية الآتية من البحر، عبر الكروم والرمال وبساتين البرتقال. ولاشيء - عدا ذلك - سوى مراقبة (العم أحمد) وهو منهمك في قص شعر زبون، أو تلطيخ وجه آخر بالصابون، فيما هو لا يكف عن الكلام أثناء ذلك. ولربما كلفني بطلب فنجان من القهوة أو كوب من الشاي الثقيل، للمعلم - وللزبون أحياناُ إذا كان يستحق ذلك - من مقهى عم ياسين (ابو داود) المجاور. وحين لا يكون لدي ما أعمله أجلس فوق ذلك الكرسي العتيق، ذي الصرير المثير، على الرصيف، أمام الدكان أرقب السابلة، والسيارات العابرة، مفاضلاً بين ألوانها، أو محاولاً تخمين ماركاتها، وهي تتجه جنوباً إلى المجدل، وغزة، أو شمالاً نحو يافا واللد والرملة، فيما يساورني شعور بالحسد إزاء ركابها الذين سوف يرون تلك البلاد. كان العم أحمد الجمل يباهي بأنه الأمهر وأنه لذلك يجمع ما يزيد على القنطار من القمح والذرة في كل موسم. إذ يتقاضى صاعاً أو أكثر حسب اريحية الزبون لقاء قيامه بالحلاقة للرجل الواحد وأولاده في العام هذا فضلاً عما يتقاضاه لقاء خلع ضرس لحذار أنت مراقب،..ون، أو فصدجبين، أو أخذ (كاسات هوا) لآخر..! حتى الدواب يأتونه بها لكي يعالجها من أمراضها ..! لم ألبث طويلاً حتى أكتسبت ثقة عم أحمد الجمل الحلاق الذي أخذ يكل إليَّ مهمة وضع الصابون على وجه الحذار أنت مراقب،..ون، مؤكداً لي أن هذا الامتياز لم يمنح لصبي قبلي من أولئك الذين عملوا عنده، الأمر الذي كان يفعم قلبي - فضلاً عن قلب والدتي - غبطة وحبوراً. ابتهج لمرأى الصابون، وهو يشكل فقاعات شفافة أرقبها في شغف وهي تننتفخ ثم تنطفئ تماماً هنا وهناك على سطح وجه الرجل. بل إن طموحي أخذ يمتد إلى أبعد من ذلك. أن أغدو قادراً، في وقت ليس ببعيد، على القيام بتلك الحركات العديدة، التي أجمل ما فيها أنها لا لزوم لها البتة، فأطقطق بالمقص حول الرأس والعنق، وأجري النصل اللامع على وجه الرجل، دون أن أثخنه بالجراح تماماً كما يفعل العم أحمد الجمل، حتى دون أن يعيقه ذلك عن مواصلة الكلام طوال الوقت عن الانكليز والأفراح والمآتم وموسم البرتقال . كان العم أحمد الحلاق يمنحني (شلناً) كاملاً كل أسبوع. وهو أمر آخر أعلن إزاءه أن أحداً غيري لم يحظ به من قبل. وفي يوم الثلاثاء تحديداً - وهو يوم السوق الأسبوعي لقريتنا وما جاورها - يدفع لي أجري، فأبادر للتو، وقبل عمل أي شيء آخر إلى شراء (شوكولاته بحليب) بتعريفة من دكان عثمان أبو حسين المجاورة. انصرفت في ذلك المساء قبل الغروب بقليل، نزولاً عند إرادة والدتي التي أوصت العم أحمد بألا يعمل على تأخيري إلى ما بعد حلول الظلام. عرجت في طريقي على ساحة سيدنا وهب المفضلة للعب في حيِّنا، والتي يقع في زاويتها الجنوبية ضريح ولي الله، محوطاً بسور من الحجارة المزينة بزخارف عربية قديمة. وتكتنف الساحة بيوت عتيقة ذات أقواس مشرعة. وأمام الأبواب مصاطب مرتفعة يتخذ منها أصحابها مجالس لهم منذ العصر إلى ما قبيل آذان العشاء. حيث يتبادلون الحديث عن شؤونهم من زواج، ومواليد، ومواسم زرع، غزارة الامطار أو شحها في ذلك العام، الحصاد وخصب المواسم، البرتقال وأوان قطفه، الثورة، والمهاجرين اليهود، ووعود الانكليز بحل القضية، الكتاب الأبيض واللجان البريطانية، والراديو ذلك الاختراع العجيب ..! إبان ذلك تدور عليهم فناجين القهوة المرة، و أكواب الشاي بالقرفة والزنجبيل، فيما صخب الصبية يرافق ذلك كله كإيقاع موسيقي لا ينقطع. لم يكن في الساحة غير عدد قليل من الغلمان، من بينهم (نعيم ابو جلالة) الذي ما إن رآني حتى انطلق يعدو نحوي هاتفاً: - أين أنت يا أمين ..؟ حمداً لله على السلامة .. فرحت بلقائه إذ اعتزمت أن أنقل إليه أنباء عملي لدى أحمد الحلاق، فقلت متباهياً : - ها أنذا عائد للتو من الدكان .. - وهل اصبحت حلاقاً ماهراً ؟ - طبعاً .. - وتحلق للرجل ذقنه بالموس دون أن تجرحه ؟ - حتى دون أن أخدشه .. - وهل تستطيع أن تقص لي شعري ..؟ - ولسانك أيضا ..! ضحك، وانقض علي يضربني على صدري، ثم يجذبني من يدي، فنعدو معاً، وهو يقول : - تعال، انظر ماذا صنعنا.. لقد أصبحنا من كبار المخترعين ..! وحين اقتربنا من الرفاق، ألفيتهم متحلقين حول شيء وضعوه على الأرض والدخان يتصاعد من حوله. لقد قاموا فعلاً بصنع القاطرة البخارية، التي قررنا ذات مرة، أن نقوم بصنعها - على غرار ما قرأه أولئك الرفاق الذين يسبقوننا بصفين أو ثلاثة عن كيفية اكتشاف البخار - قائلين : ولماذا يكون هذا ال (جيمس واط) أذكى أو أبرع منا.. ! ؟) خامرني شعور بالأسف، إذ لم اشارك، منذ البداية، في هذا العمل الجليل ..! ساد الصمت حين رأينا العلبة المعدنية التي ملأوها ماء، وأحكموا إغلاقها، وثبتوا بها عدداً من العجلات الصغيرة، تأخذ في الاهتزاز، ثم تتحرك قليلاً، إلى الخلف وقليلاً إلى الأمام، وصوت الماء يغلي بداخلها، بفعل النار المتأججة من حولها. ارتسمت الفرحة على وجوه الأطفال والغلمان وتبادلت أعينهم النظرات القلقة المتسائلة، ولكن في سعادة طاغية. وفي اللحظة التي انطلقنا نهتف احتفالاً بالنجاح الذي تحقق، فها نحن قد تمكنا من صنع قاطرة حقيقية - تماماً كذلك الانكليزي اللعين - في تلك اللحظة تماماً دوى انفجار، وتطاير في الجو رذاذ الماء، ثم تساقط ليغمر وجوهنا، فيما تحول الهتاف إلى صيحات فزع واستنكار، ولعنات تنصب على رأس (جيمس واط) وآله أجمعين ..! كنت أشعر بالحرج أمام رفاقي، إذ لم أكن قادراً على مجاراتهم. أولاد الهمص، اسماعيل العطار، أولاد الجمل، أهلهم أغنياء، يلبون لهم حاجاتهم. يرتدون ملابس جديدة في المناسبات، ولديهم أحذية جديدة أيضاً، وثياب مختلفة في ألوانها وأنواعها. كما أنهم لا يفتأون يشترون الشوكلاته والملبس من الدكاكين، أو يحضرونها معهم. كانوا يعرضون عليَّ شيئاً منها فأمتنع، حين أتذكر وصايا أمي. كانت تدعوني إلى الظهور أمامهم مكتفياً لا أفتقر إلى شيء، رغم أن ملابسي لا تكاد تتغير من بداية العام الدراسي حتى نهايته. وحين يبلى حذائي أصلحه عند الكندرجي (أبو مصطفى) بقرش .(يركِّب) للحذاء نصف نعل،. ثم يلمِّعه قبل أن يناولنيه مؤكداً لي أنه قد عــاد جـديداً ..! - 8 - في طريقي إلى البيت التقيت مريم عائدة من دكان البقال. تنحينا عن الطريق قليلاً، حيث وقفنا تحت شجرة النخيل القائمة عند ناصية الشارع. نسمات خريفية تداعب شعرها الأشقر، المرسل على كتفيها، يتماوج على جانبي وجهها الدقيق التقاطيع، فتعيده إلى الوراء بحركة رشيقة من جيدها، لا تكلُّف فيها، تضفي عليها مزيداً من الفتنة. أخذت تتلفت حولها في قلق ظاهر، فيما تضرج محياها الأبيض حمرة وردية، تثير في النفس حنيناً مبهماً نود معه عناق الكون. وحين سألتها لماذا لم أرها خلال الأيام القليلة الماضية، أجابت وابتسامتها الحلوة ترف على شفتيها، وتطل من عينيها الزرقاوين، قائلة بأن والدتها أخذت تضيق عليها الخناق مؤخراً، بحجة أنها لم تعد صغيرة، وأن عليها منذ الآن أن تكون اكثر تحفظاً مع أولاد الحي، كي لا تلوك الألسنة سمعتها..! لم يدر بخلدي حتى تلك اللحظة سوى أننا أصدقاء.. أبناء جيران. للمرة الأولى تخطر لي أفكار حول الذكر والأنثى، في شخصي وشخصها. والفرق بين الولد و البنت، لم يكن سهلاً أن أقنعها باللقاء خلسة من حين لآخر. بل إنني لم أكن أرغب في ذلك. لم التخفي وكأننا نقترف خطيئة أو نرتكب ذنباً ..؟ ولكني أريد أن أراها، فلا تنقطع عني.. أن أتحدث إليها بغير موانع أو تحفظات. ومن ذا الذي له الحق في أن يحرمنا لقاء اتنا البريئة.. بل لماذا تفكر الأم بهذه الطريقة السخيفة ..؟ ودَّعت مريم وانصرفت واجماً، أفكر فيما سمعت منها . دخلت المنزل فألفيت جدي و أحد أخوالي وابن عم لأمي يجلسون على مراتب فوق حصير من القش، مما يوحي بقدر من الحفاوة أبدته أمي حيالهم. وإبريق من الشاي أمامهم وأكواب فارغة، وصحن امتلأ بأعقاب السجاير، فيما كان جدي يلف واحدة جديدة منها ببراعة كنت دوماً أغبطه عليها. ما إن لمحت وجه والدتي الممتقع حتى أدركت لفوري أن هناك أمراً غير سار، وغير عادي أيضاً، يجتمعون من أجله. ازداد شعوري بالانقباض. ساد الصمت لحظات، ريثما سلمت عليهم، فيما هم يرددون واحداً إثر الآخر : الله يرضى عليك.. ما شاء الله.. أصبحت شاباً.. من خلَّف ما مات.. ثم استأنفوا حديثهم دون أن يكترثوا كثيراً لحضوري بعد ذلك . صعقني، بادئ الأمر، قول الخال مواصلاً حديثاً كان قطعه دخولي غير المنتظر : - صبية ترَّملت، لا بد لها أن تتزوج.. حتى لو كان لديها أولاد.. ليس الأولاد بالشيء المهم. وإنما المهم هو الشرف.. السمعة.. القيل و القال.. كلام الناس يا أختي ..! وسرعان ما أمَّن على قوله هذا ابن عمها بحماس : - صبية لم تبلغ الثلاثين.. لا يصح ولا يجوز أن تظل بغير زواج ..! أضاف الخال : - بل ماذا سيحدث للأولاد؟ ليبقوا مع أمهم أو ليتكفل بهم أي واحد من أهلهم..! تذكرت مريم وما نقلته إلي عن أمها.. ازددت أسى.. قال جدي بوقاره المعهود : - الستر هو المهم يا ابنتي ..! أعقب ذلك صمت ثقيل، مبعثه كلمات جدي التي لا بد من شيء من الصمت إثرها كي يتم استيعابها. إلى أن قطع ذلك الصمت خالي الذي بدا متحمساً للفكرة، مصراً عليها فقال في زهو من يلقي بحكمة نادرة، موجهاً كلامه إليها : - حتى لو كنت في طهارة بنات النبي، فالناس سوف يتكلمون يا أم سعيد..! ردت أمي على الفور بحنق وألم واضحين، إذ هي تستطيع الرد عليه هو.. أما والدها فلا، احتراماً له وتوقيراً .. - يتكلمون عن ماذا يا رمضان ..؟ قال خالي وقد أربكته المفاجأة بعض الشيء : - عن أي شيء.. ليس ضرورياً أن يكون هناك ما يتكلم عنه الناس بالفعل.. هم يتكلمون والسلام..! - إذن فيم يهمنا كلامهم (مادام كلام والسلام .؟) - ما شاء الله.. ما شاء الله.. ما الذي يهمنا إذن ..؟ تدخل جدي : - يا ابنتي.. هداك الله.. نحن لا نحب لك إلا الخير.. ولا نعرض عليك إلا ما هو في مصلحتك ..! ردت ساخطة : - هل مصلحتي هي أن أدع أولادي يعيشون يتماً مزدوجاً ؟ حاول الجد أن يحافظ على هدوئه، وهو يعود للقول ؟ - الأولاد يا ابنتي يعيشون كما يعيش غيرهم. الأولاد، شأنهم شأن المخلوقات الأخرى، من الحشرة حتى الأنسان، كلها تعيش بفضل الله وعونه .! . ها نحن قد زوجنا شقيقتك نعمة بعد مقتل زوجها، هي الأخرى، على أيدي هؤلاء الأوغاد، فماذا جرى لأولادها؟ هل ماتوا مثلاً ..! ؟ أولئك هم يعيشون في أمان الله ..! هزت أمي رأسها وأطرقت تهمس في ألم، كمن تحدث نفسها : - ماذا جرى لهم؟ لم يموتوا حقاً.. وهكذا يكفي ..! وتدخل ابن عمها مشجعاً : - ونحن، سوف نعمل على أن يبقى الأولاد معك يا ابنة العم، فماذا بربك تريدين أكثر من ذلك ..! ؟ ويساعدك ذلك أيضاً على هذا الحمل الثقيل. بيقول المثل (الحمل اذا توزع بينشال) ..! استبدت بي مشاعر الأسى والضياع. لو كان سعيد حاضراً لتمكنا معاً أن نقول شيئاً، أي شيء نشد به أزر المسكينة، التي بدا عليها من الجزع والألم ما لم اشهد عليها مثله إلا يوم مصرع أبي. أحسست بغير قليل من الحقد على جدي، و أخوالي جميعاً، لاسيما ابن عمها هذا. إنهم يعملون على انتزاعها منا؟ لماذا يريدون أن يدمروا حياتنا.. لم لا يتركوننا وشأننا.. ما لهم ومالنا ألا يكفينا ما أصابنا ..! تنبهت إلى حركة جدي وهو ينهض متثاقلاً ممسكاً بعصاه التي يتوكأ عليها - ولكم سرني ذلك - فيما يهم الآخران بالوقوف : - سوف نتركك يا ابنتي تفكرين في الأمر الليلة ونهار الغد.. وعلى بركة الله ..قال الآخران معاً، وهما ينحنيان لالتقاط حذاءيهما : - الله يجيب اللي فيه الخير.. آمين .. لم تذق طعم النوم في تلك الليلة. حاولت جاهدة أن تتمالك نفسها، أول الأمر، وأن تتظاهر بالهدوء وعدم الاكتراث، كيلا تثير فزعنا، إلا انها أخفقت في اخفاء مشاعرها كل الوقت . كان الذي عرض عليها يعني شيئاً واحداً. كارثة محققة تحيق بهذا البيت. فاذا ما تم الزواج المقترح، فما الذي سيحدث لهم. هل يبقون معها كما يقولون ..؟ وفي هذه الحال كيف ستكون معاملة (العم) لهم : هل سيعاملهم بالمودة والحسنى؟ ومن ناحيتهم هم، هل سيبادلونه المودة، اللهم إن وجدت لديه؟ واذا ما حدث العكس، فلم يرتح إليهم ولا هم اطمأنوا إليه، بل ربما كان قاسياً عليهم. فماذا سيكون الحال عندئذ، وهي لا تملك من أمرها شيئاً ..؟ أين يذهبون إذا ما ساءت العلاقات بين الزوج والأبناء؟ ومن يقوم على تربيتهم ورعايتهم؟ الضياع مصيرهم. وأهلي هؤلاء ماذا سيفعلون ؟.. ينسونهم.. وهذه هي الدنيا (كل مين يارب أسألك نفسي)..! . تلوذ بالبكاء في صمت.. والليل يمضي بطيئاً رتيباً. ترنو إليهم، ينامون في وداعة الواحد إلى جوار الآخر (لا يدركون ماذا تخبئ لهم الأيام).. تتراقص على أجسادهم الغضة، وعلى جدران الغرفة الشاحبة ظلال ضوء السراج المتأرجحة التي تزيدها وحشة وحزناً. تذكرته.. الرصاصات الغادرة.. والأيام الخالية في رعايته وتحت جناحه. غمغمت والدموع تنساب على وجنتيها : .. إلهي.. ألم يكف الأقدار ما صنعت بنا حتى الآن ...؟ - 9 - لأن الانكليز لم يعلنوا عن موعد بعينه من أجل تنفيذ عملية النسف للمباني التي وضعوا عليها علامات (×) يوم مقتل محمد المغاري، ولأن بعض الوقت انقضى منذ ذلك الحين دون أن تقع حوادث ذات شأن في قرية يبنا وما جاورها، فقد بدا للكثيرين أنهم ربما ضربوا صفحاً عن هذه العملية، أو صرفوا النظر عنها لسبب ما. بل حدا هذا الاعتقاد بأحد المخاتير أن يزعم بأن العملية ألغيت نتيجة لتوسطه لدى السلطة، هادفاً من وراء هذا الزعم كسب المزيد من الشعبية لدى أهل القرية. ولم يكن ذلك في الواقع إلا منزلقاً أوقع نفسه فيه بيده، استغله مختار آخر للغمز من قناته، بدعوى أن من تقبل شفاعته لدى الانكليز لا بد أنه موالٍ لهم. ولم يستطع الأول (الحاج عوض الله) أن يدفع التهمة عن نفسه إلا يوم جاء الانكليز عصر ذلك اليوم ليبطلوا دعواه عملياً، وبالتالي تبرئة ساحته، وإن يكن علىحساب تسجيل موقف كاذب عليه. وهذا خير له علىأية حال، كما رأى هو في نهاية المطاف . في العصاري من كل يوم، أسراب الصبايا تتوافد على (حاووز)بيارة المختار (الحاج علي الهمص)، الواقع خلف مقهى مجاور لسوق الجميزة، يملأن جرارهن، ثم يمضين في الطريق الترابي المحاذي لمقهى (أبو سالم) فيقطعن الطريق العام المعبد إلى بيوتهن عبر الأزقة المتفرعة، وقد ارتدين ثياباً سوداء، مطرزة على الصدر والجانبين، وتوشحن بملاءات بيضاء، والجرار فوق رؤوسهن لها وضع خاص، يعتبر في حد ذاته، مقياساً لبراعة واحدتهن وتفوقها على لداتها، فالأكثر مهارة هي التي تميل الجرة بمقدار أكبر، بحيث يخيل للرائي أنها توشك على السقوط، لكنها تظل ثابتة، لا تتأثر بمشية الفتاة أيّاً كان نصيبها من الثقة بالنفس و الاعتداد بالذات . كان مقهى (أبو سالم) هو الأكثر رواداً بسبب موقعه هذا. فالشباب يجلسون هناك عصراً كي يمتعوا أبصارهم بالغاديات الرائحات على مقربة منهم، وقد رش عمال المقهى الأرض الترابية الحمراء بالماء من أمامه وحوله، تحت الكراسي والمناضد، فتطايرت مع الغبار رائحة التراب الرطبة تحملها نسمات الصيف الرقيقة، فيما تتعالى النداءات :.. شاي ثقيل.. قهوة سكر قليل.. سكر زيادة.. فيما يصدح صوت المذياع بأغاني أم كلثوم أو عبد الوهاب الجديدة.. افرح يا قلبي لك نصيب تبلغ مناك ويا الحبيب .. يا وابور قل لي رايح على فين ...ياوابور قل لي وسافرت منين ..يادنيا يا غرامي.. يادمعي يا ابتسامي.. قلبي يحبك يادنيا ..! يا جارة الوادي طربتُ..! .وعادني مايشبه الأحلام من ذكراك .. ولربما كان هذا هو المكان الأمثل لانتقاء عروس، حيث يمكن للشاب هنا أن يرى، بغير وساطة الامهات والأخوات والعمَّات، من يمكن أن يقع اختياره عليها شكلاً ومظهراً. أما عن الأسرة و السمعة والسلوك، فتلك أمور يعرفها الجميع عن الجميع. مجتمع صغير.. كتاب مفتوح.. وليس في وسعك، من ثم، أن تظهر بغير ما أنت عليه. ويأتي بعد ذلك دور الأم والأخوات لاستقصاء (الموضوع) من جوانبه الأخرى، قبل أن يلتقي الرجال لقراءة الفاتحة، والبت في أمر الخطبة وعقد القران. والخطبة لا تعني لقاءات ولا زيارات، هي ارتباط ليس إلا، حتى يحين أوان الزواج . اسراب الصبايا تعبر الطريق. الشبان على المقهى يمرحون ويتبادلون الأحاديث.. السيارات العابرة من حين لحين يقطع دويها حديثهم.. أصوات الباعة، تحت ظلال الجميزة الهرمة تتردد بغير انقطاع.. جرس المدرسة يدق مؤذناً بالانصراف. صخب التلاميذ متجهين إلى بيوتهم سوف يملأ الطرقات عما قليل .. على غير توقع أو انتظار أطلت قافلة المصفحات الخضراء، التي لم يعد مرآها غريباً على أهل القرية، وقد علت أبراجها رشاشات (متراليوز). توزعت بسرعة فائقة في انحاء الساحة، وعند مداخل الطرقات . - إذن لقد جاؤوا أخيراً. لقد بروا بوعدهم ..! لم يخيبوا الظن ولم ينسوا واجبهم المقدس في تدميرنا وتخريب بيوتنا ..! قال ذلك شاب غاضب. عقب آخر : - والحاج عوض الله لم يثنهم عن قرارهم.. كاذب؟ نعم.. لكنه ليس موالياً لهم . أحاطوا بالمنطقة تماماً. ترجل عدد منهم بتقدمهم كبيرهم، ومن حوله ضباط تلمع النجوم على أكتافهم والنياشين على صدورهم، راحوا يصدرون أوامرهم لمن في المقهى، ومن في السوق والطرقات، بالاتجاه إلى باحة ضريح أبي هريرة القريبة، مهددين من يتباطأ بسوء المصير. يلوحون بالمسدسات، واشارات الأيدي مصحوبة بالصراخ والصياح. يستجيب بعض، ويتلكأ بعض، والحقد في نظراتهم صوب أولئك، مما يثير حنق الضابط الكبير فيرغي ويحذار أنت مراقب،..د، ويكيل الشتائم بكلمات سوقية عربية مكسرة، مكرراً أوامره بالتحرك سريعاً إلى حيث يشير . خلت الحوانيت والمقاهي من روادها واصحابها. بعض التلاميذ في هذه الاثناء استطاع تجاوز نطاق الجنود و التوجه إلى دورهم، فيما كان نصيبنا نحن .- عدد من الصبية - أن تعرَّض لنا عدد منهم، ودفعوا بنا إلى حيث تجمع الآخرون، قرب الضريح وبين القبور . بدأ الرصاص يئز فوق رؤوسنا ومن حولنا في كل اتجاه. جندي ضخم الجثة، أحمر الوجه يتحرك أمامنا جيئة وذهاباً، رشاشه في يده مسدد، تمنطق بأمشاط الرصاص حول خصره، دائرة كاملة إلا من مطرة ماء على الجانب الأيمن، وعلى رأسه خوذة حديدية. أقول الحق أعجبني مظهره، وتمنيت لو كنت مكانه، و جمهور من الانكليز أو اليهود أمامي في مكاننا. وجهه محتقن يطفح عرقاً. عيناه الزرقاوان تقذفان بنظرات يصعب تحديد كنهها : حقد.. قلق.. كراهية.. ريبة.. أو كل ذلك معاً، ولكنهما تنبئان بأنه على استعداد للإجهاز علينا جميعاً إذا لزم الأمر. وكلما تحرك غلام ،أو تحدث رجل، أو همست امرأة استشاط غضباً، وصاح بنا (Shutup ) .فضلاً عن سيل دافق من الكلمات الغاضبة، غير المفهومة، وإن يكن واضحاً أنها ليست تحيات موجهة إلينا. هذا فيما سيمفونية الرصاص ما برحت تعزف ألحانها المخيفة .!لم يمض وقت طويل قبل أن يدوي أول انفجار هز أرجاء القرية، ثم يتبعه ثان، فثالث. ومع كل منها تتوالى أصوات انهيار، وتتصاعد سحب غبار تملأ الفضاء، أخذنا نرقبها وهي تسبح باتجاهنا مع الريح. امتقعت الوجوه، وتبادل الحضور نظرات ملؤها الغيظ والألم، فيما لمحت انفراج أسارير ذلك الجندي المكلف بحراستنا، إذ راح هذا يتبختر مزهواً بمشيته العسكرية العنيفة، كأنما يقولانظروا كم نحن أقوياء..! ) غمغمت أمرأة بصوت مسموع : (الله أقوى منكم يا شيخ.. روحوا الله لا يكسِّبكم). ولكي تكون الحملة ذات أثر مهيب لا ينسى، وتبقى نتائجها الماساوية إلى أن يشاء الله بعد ذلك في الأفراد، بل وفي حياة أهل القرية جميعاً، وليس في المباني وحدها، تعمدوا أن يصيب رصاصهم عدداً من الناس. أن يقتلوا بغير تعيين.. أيّ ناس و السلام. المهم أن يصنعوا المآسي في هذا اليوم لكي يصبح تاريخاً..! كانت محصلة ذلك اليوم أحد عشر شهيداً. من بينهم رفيقنا (اسماعيل الحملاوي) الذي اخترع قطاراً منذ أيام. كان عائداً من الفرن ساعة وصول الحملة، وعلى رأسه طبق الخبز. ولم تكن رصاصات طائشة تلك التي أردته قتيلاً، بل هادفة متعمدة، فقد انتهره أحد الجنود وهو على قيد خطوات من باب منزلهم. ولكنه بسبب خوفه انطلق يعدو والأرغفة تتطاير من فوق رأسه، فبادره ذاك برصاصة اخترقت ظهره. تدحرج بضعة أمتار حتى استقر جسده عند عتبة الدار تماماً. خالته، زوجة أبيه، كانت هي التي أرسلته إلى الفرن. طلقها الرجل بعدئذ ناسباً إليها سبب موت اسماعيل. و آه يا صديقنا المخترع إسماعيل.. تضيع حياتك أنت أيضاً حتى قبل أن تتفتح عيناك عليها برصاصة جبان أحمق ممن ابتلتنا بهم المقادير.. أصابك ما أصاب أبي.. وقافلة الشهداء المجهولين بلا عدد . كما أصيبت فتاتان عند حاووز الماء، حملهما شابان إلى دار قريبة، بترت ساق إحداهما فيما بعد، وتوفيت الثانية بسبب النزيف الذي لم ينقطع طوال ساعات الحملة. التجول ممنوع. وليس في القرية طبيب أيضاً الأطباء في يافا والرملة والمدن فقط.. أنت أيضاً تذهبين رغماً عنك.. وكان لك أن تعيشي حياة مديدة لولا الدخلاء الغرباء هؤلاء ..! قبيل الغروب بدأت القوة البريطانية في الأنسحاب، بعد أن أمرت الجمهور المرتهن بعدم التحرك قبل أن تبرح القرية. وألقت بين الناس كميات من النشرات المطبوعة على قصاصات من ورق ملون، تشبه تلك التي ألقتها الطائرات فوق القرية في مناسبات مختلفة، من ارتفاع منخفض تكاد تلامس أسطحة المنازل. وهي تضع اللوم على الثوار وتدعو الشعب إلى التخلي عنهم، بل و تسليمهم للسلطات المختصة. ومنها ما ينص على مكافأة سخية، لمن يقدم معلومات عن (محمد طه النجار) و(أسعد الرنتيسي)، زاعمة أن الثوار بقيادة هذين الرجلين، هم الذين يجلبون على (الأهالي) هذه المتاعب ،(ولولاهما لعاش الناس في سلام وأمان إلى يوم الدين ..! ) . وما أن ابتعدت آخر مصفحة، حتى انطلقنا نستطلع ما جرى للأهل والمباني إبان فترة احتجازنا، وقد بدا لنا أن الوقت الذي مضى كان طويلاً جداً .. لم أصدق ما رأت عيناي. جابهني فراغ امتد بعيداً مكان المباني، التي كانت قائمة قبل قليل تحجب النظر عما وراءها حتى الأفق. لم يعد هناك سوى حطام.. أكوام من الحجارة والحطام والأتربة. مقهى أبو سالم والدكاكين المجاورة أمست ركاماً. شظايا زجاج محطم.. بقايا أباريق وكراسي وأطباق مبعثرة.. أخشاب محترقة.. وسحب غبار خانق ما زالت تملأ الفضاء، فتكتم الأنفاس. لم يبق قائماً في المكان سوى (حاووز) ماء الحاج علي الهمص العائد لبيارته والمطحنة المجاورة التي يملكها. بدا كنصب تذكاري شاهد على ما جرى وما كان. غير أن جدرانه تصدعت، وانبعث الماء يتدفق منها كشلال من الدموع.. والجميزة شامخة في مكانها، تتحدى في كبرياء جريح صامت، وقد غطى الغبار والقتام أوراقها و أغصانها . اجتمع عدد من كبار رجال القرية ضحى اليوم التالي في مضافة المختار الحاج عوض الله. نددوا واستنكروا طويلاً، ثم قرروا في نهاية الأمر، أن يجمعوا من المال ما يكفي لإعادة بناء ما تهدم،لكي لا يتحمل الخسارة أصحابه وحدهم إذ ليسوا هم المستهدفين بحد ذاتهم، وإنما هي عقوبة جماعية يلجأ إليها الانكليز كلما فشلوا في الكشف عن الثوار. كما أنها إحدى وسائلهم لإرهاب الأهالي الذين هم جميعاً هدف تلك العقوبة. ولسوف يسهم في جمع المال أهل القرية، كل في حدود قدرته، وربما أهالي القرى المجاورة. عند عصر ذلك اليوم شهدت القرية جنازة شهداء الأمس. لم يتخلف أحد من الرجال والنساء والغلمان، بكيت شأني شأن الآخرين. الأحد عشر نعشاً محمولة على الأكتاف الموكب يسير الهوينا في صمت حتى المقبرة. دفن الشهداء، الذين لم تغسل أجسادهم ولم يكفنوا. ووريت أجسادهم التراب والناس بين منتحب وغاضب ومندد. تذكرت جنازة أبي، وحزن أمي .أحسست كأننا نواريه التراب اليوم. عاد الناس بعد الدفن متفرقين، فغصت بهم الأزقة والطرقات أمام الحوانيت والمقاهي المغرقة في صمت مهيب. أما الأبنية التي نسفت بالأمس فكان شبان كثر يقومون بإزالة أنقاضها، أو جمعها في كومة كبيرة. وحين خلت مساحة من الأرض من الأنقاض بعد ساعات، شرعوا في إقامة سرادق كبير علقت في جوانبه و أنحاء منه المصابيح التي أضيئت فور تعليقها، مع أن الشمس لم تكن قد غربت بعد. وضعت الكراسي والمقاعد التي تطوع بتقديمها عدد من الناس. عقب الغروب أخذ شيخ معمم ضرير، جيء به من يافا، في تلاوة القرآن الكريم. وعلى الرغم من برودة الجو واشتداد الريح، وقتامة السحب التي تنذر بمطر قد ينهمر في أية لحظة. واصل الناس سهرهم حتى ساعة متأخرة من الليل. حيناً في الاستماع إلى التلاوة، وحيناً إلى متحدث من بينهم (كالشيخ محمد طافش) أو زميله الشيخ (محمد ابو العينين) عن مآثر الشهداء، أو في رواية قصة من تاريخ الأمة في الشهادة والجهاد . وعلى مدى أيام ثلاثة تابع الأهالي سهرهم وتقديم التعازي أو تقبلها، فلم يكن هناك فارق بين أهل الشهداء وغيرهم فالخسارة ألمت بالجميع، والذين فقدوا هم أبناء القرية ،وليسوا أبناء أسرهم وحدها. كما أن أحداً لم يتوان عن تقديم الطعام في قدور كبيرة على مدى الأيام الثلاثة، في السرادق، كما في منازل ذوي الشهداء . - 10 - كان عسيراً علينا أن نفهم لماذا يجب أن يقتل آباؤنا وأحباؤنا على أيدي الانكليز. أن يتيتم الأطفال وترمل النساء، أن تدمر المباني، وتحرق المزارع والحقول، فيعم الخراب، وينتشر الحزن في كل مكان ..! ثم من هم هؤلاء؟ ما سبب عدائهم لنا؟ من أين أتوا ..؟ قرأنا في مقرر الجغرافيا أنهم جاؤا من جزر نائية، وراء البحار، على مبعدة آلاف الأميال من ديارنا، وأن بلادهم تلك، باردة ماطرة طوال العام.. وو.. إذن مالنا وما لهم؟ ولماذا وبأي حق يصرون على اقتحام حياتنا، هكذا عنوة واقتداراً وتطفلاً؟ هل مجرد كونهم (انكليزاً) ومحض كوننا (عرباً) يمكن أن يكون سبباً وجيهاً لهذا العدوان؟ أم ترى مبعث ذلك اختلاف ألواننا؟ أم لأنهم يتكلمون تلك الرطائة العجيبة التي لا تفهم ..؟ ويجيب أهلنا على تساؤلاتنا الكثيرة الحائرة، بأنها الثورة. وكأن هذه الأجابة المقتضبة تكفي لأن نفهم كل شيء، أو تفسِّر لنا أياً من تلك التساؤلات. بيد أن هذه الأحداث أمست جزءاً من حياتنا اليومية، فأصبحت من ثم، تحظى بغير قليل من اهتمامنا، بل وتشكل هماً حقيقياً لنا، فباتت شغلنا الشاغل. فما أن نلتقي في الفسحة، بين الدروس أو في الملعب، أو في الطريق حتى نبادر إلى تداول الحكايا عن بطولات ثوارنا الخارقة التي كنا نسمع عنها. ثم غدونا ننقسم إلى جماعات تتححذار أنت مراقب،.. كل منها لواحد من قادة الثورة البارزين، مضفية عليه هالات من البطولة، ناسجة حوله فيضاً من الأساطير والخوارق، تفاخر به الجماعات الأخرى، لكأنما تلك البطولات من صنعها هي ..! نسمع عن فوزي القاوقجي : صهيوني دبر حالك /نفدوا الثوار../ معهم فوزي القاوقجي / بطل الأحرار.. الشيخ عز الدين القسام أبو الثورة الأول القادم من سوريا ليستشهد في أحراش يعبد .وهو الذي عمل على قيام الثورة عام 1936، وكان جهاده نبراساً للثوار والأحرار. القائد حسن سلامة.. عبد الرحيم الحاج محمد - أبو كمال -.. عبد القادر الحسيني.. الحاج أمين الحسيني : حاج أمين يا منصور..! بسيفك هدينا السور ... (حتى دون أن ندري عن أي سور يتحدثون. !! سيف الدين الحاج أمين ..! كنت من أنصار القائد عبد الرحيم. منذ ذلك اليوم الذي سمعت فيه أن هذا القائد يملك قدرات خارقة على مجابهة الانكليز، والإفلات من شراكهم وكمائنهم، ثم الظهور بغتة في أي مكان ليهاجم دورية، أوينسف مركزاً للبوليس، ويختفي بعد ذلك، في طرفة عين، ليظهر من جديد في مكان آخر.. وأن أعماله هذه قد أعيت قوات الاحتلال حتى أنها كرست عدداً غفيراً من جنودها، كما رصدت مبالغ طائلة من أجل القاء القبض عليه حياً أو ميتاً ..! أرسم له في مخيلتي صورة مثالية تتناسب وما أكنُّ له من إعجاب و إكبار. ولم يكن رفاقي أقل حماسة في تصوراتهم عن أبطالهم المفضلين. وكم تمنى واحدنا لو يشب عن الطوق فجأة ليغدو واحداً من هؤلاء كي يصبح ذكره - مثلهم - على كل لسان ...! اتفقت مع الرفاق على التوجه بأسئلتنا هذه إلى أحد معلمينا. وقع اختيارنا على الأستاذ (عبد الخالق) مدير المدرسة. فهو خير من يمكن أن يستمع إلينا بسعة صدر، خلافاً للشيخ (محمد أبو العينين) العابس مكفهر الوجه على الدوام، أو الأستاذ (أبو مهدي) الذي يعتقد أننا صغار.. (عفاريت) لا نستحق عناء الحديث إلينا في قضايا كهذه ..! قرع جرس الصباح. انتظمنا صفوفاً أمام بناء المدرسة، ومن خلفنا حديقتها الحافلة بالأشجار والأزهار. الأرض مفروشة بالرمل الأصفر، وحصى مجلوب من الشاطئ، مصقول أملس. أشجار الكينا العالية والسرو والصنوبر تحيط بالمدرسة من شتى أرجائها، يسمع حفيفها الهادئ فيدخل إلى نفوسنا البهجة والطمأنينة منذ بداية النهار. أشار الأستاذ للصفوف، فشرعنا ننشد : بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمن/ إلى مصر فتطوان فلا حد يباعدنا / ولا دين يفرقنا / لسان الضاد يجمعنا / بغسان وعدنان كف الأولاد عن صخبهم فور دخول الأستاذ عبد الخالق. ساد الصمت. قبع الجميع في أماكنهم، إذ كان أستاذنا هذا يخطرنا بأنه إذا ما دخل غرفة الصف، فيجب أن يسمع صوت الأبرة إذا ما وقعت على الأرض ...! بادر نعيم إلى رفع يده، حين كان الأستاذ عبد الخالق يتفحص دفاتر وأوراقاً بين يديه. تنبه له بعد لأي. تساءل في غير أكتراث : -ماذا يا نعيم ..؟ قال هذا مرتبكاً : - أستاذ.. سؤال من فضلك .. - تفضل.. هات ما عندك ..يا فتَّاح يا عليم.. ! - سؤال عن الانكليز.. أعني الثورة وجم الأستاذ برهة. ثم قال، وعلامات الدهشة بادية على وجهه النحيل، وفي عينيه الضيقتين الحادتين كعيني صقر: - ماذا تقصد يا ولد ..؟ مالك أنت والثورة ..؟ - نريد أن نفهم لماذا يقتل الانكليز أهلنا؟ لماذا يعتدون علينا؟ هؤلاء الذين استشهدوا بالأمس.. وهذه المباني التي نسفوها.. لماذا يفعلون هذا بنا ؟ ثقل الصمت إلا من صوت حفيف الأشجار عبر النوافذ، فيما أخذ الأستاذ عبد الخالق يذرع الغرفة، جيئة وذهاباً، ويداه معقودتان وراء ظهره، تماماً كما كان يفعل نابليون قبيل دخول المعركة (هكذا قيل لنا أنه كان يفعل)..! بعد لحظات سادها الترقب المشحون بالتوتر، اتجه الاستاذ إلى باب الغرفة فأغلقه، ثم عاد ليقف بمحاذاة أول صف من المقاعد. بدا عليه اهتمام غير عادي، يوحي بأن ما يعتزم قوله شيء ليس من قبيل (الثور الأسود الذي أُكل يوم أكل الثور الأبيض)، أو الثعلب الذي احتال على الحمار فأكله في قلب الغابة.. لأنه حمار ..! أو ليلى التي أكل الذئب جدتها ..! قال بصوت خفيض النبرات : .. ما سأقوله لكم يا أبنائي، يجب عليكم أن تعوه جيداً. وليكن هذا هو موضوع درسنا اليوم. لكنه درس للحفظ في قلوبكم. امتحانكم فيه عندما تصبحون شباناً. والممتحن آنذاك هو الوطن.. فلسطين أمكم ..! نظر بعضنا إلى بعض في دهشة ممزوجة بغير قليل من الخيلاء. تخيلنا للحظات أننا سنصبح ثواراً.. نحمل البنادق.. نتبادل المط | |
|