يحتاج الدرس نظرية مضمرة، منهجا موحدا وأمثلة متناثرة... تنطبق عليها النظرية.
النظرية تفسر الأمثلة.
الأمثلة تثبت صحة النظرية.
في هذا الباب فمعلمنا المسرحي بيداغوجي مذهل، يعترض ويقترح. غير أن الدرس يمتد على 530 صفحة. وقد أدركت في الصفحة 60 أن هذا كتاب سيسبب لي الحمى، وكان آخر كتاب قرأته وأمرضني هو "جماليات الرواية" Esthétique et théorie du roman لميخائيل باختين... الفصل الأصعب لدى باختين: الزمن والفضاء Formes du temps et du chronotope dans le roman
ولفرحتي فالزمن والفضاء في الرواية أكثر اتساعا وتراكما وتعقيدا منه في السينما، وقد أبرزت روايات دوستويفسكي دور العتبةseuil – المكانية والزمنية - في خلق التوتر. لذا أقرأ كتب السينما فتضيئها نظرية الرواية. فالسرد يجمعهما معا، وقواعد السرد واحدة، مثل قواعد الشطرنج.
ما سبب الحمى؟
تحدي أن أرتفع إلى قامة الكتاب، لأفهمه فأعرضه للقراء ثم أعمل به... فمن لم يقرأ ستانيسلافسكي ويفهمه لن يدير الممثلين لا على الخشبة ولا في البلاتو أمام الكاميرا. هذا ما قرره صانع الصلصة البولندي
درس ستانسيلافسكي ذو وحدة عضوية، وهو ثمرة ممارسة ميدانية طويلة للكاتب كممثل ومخرج ومربي... لذا تأتي صيغ التشخيص والتوجيه دقيقة وتصيب الهدف مباشرة... يجب أن تكون القراءة عضوية أيضا... أي أن يقرأ الكتاب دفعة واحدة وإلا ستكون الحصيلة ضعيفة... كتاب عملاق يحدد المخرج بيتر بروك موضوعه:
يدرس التمثيل: ظواهره، معناه وطبيعة علم عملياته العقلية – الفيزيقية والانفعالية.
هذا كتاب لا ترجع كما كنت قبل أن تقرأه، كتاب يرفعك شبرا وذراعا في مدرج الفن... كتاب يحتاجه الممثل ليتمرن، يحتاجه المخرج ليدير الممثلين، يحتاجه الناقد السينمائي أيضا، ليحلل الأداء في الأفلام بمعجم متخصص.
الدرج الأول تعريف:
التمثيل هو التعبير بالإيماء، بالعقل والجسد في وحدة موحدة، التمثيل ليس غاية بل مركبة، وسيلة نقل، التمثيل هو لغة الجسد... (سنلقي لاحقا نظرة على الجسد المغربي).
في هذا الباب يفصل ستانيسلافسكي:
"ثمة اتجاهان أساسيان في عملنا: فن المعاناة وفن العرض" ص86.
يسود النوع الأول لدى الممثل المبدع، بينما يسيطر النوع الثاني لدى الممثل الذي يلقبه الكاتب ب طرطوف.
قبل أن يفصل الاتجاهين يعرج الدرس على حالة يمر بها الممثلان معا، وهي مرحلة التمثيل التلقائي.
وفيه يعتبر الممثل أنه يعيش الحياة الواقعية لذا لا يرتفع عن اليومي.. ممثل يرتجل فتأتيه لحظة إلهام ولحظات خواء... ممثل لا يعرف التقنية، يل يقع أن يقود العقل الباطن الممثل التلقائي في طريقه الصحيح في غفلة من إرادته ودون وعي منه حينها يؤدي على السجية... يقدم دفقات إلهام متقطعة تجعل مستوى الأداء متذبذبا... لحظة تألق تليها لحظات هبوط يحاول الممثل ملأها بالمبالغة الساذجة السطحية...
يخلص إلى أن الهواية السطحية مفيدة وخطيرة في آن معا"
لماذا؟
لأنه "لايمكن الإبداع بصورة لاواعية ملهمة مستمرة. لا وجود لمثل هذه العبقرية، لهذا فإن فننا يلزمنا أن نمهد التربة وحسب لمثل هذا الإبداع اللاواعي الأصيل".
كيف؟
أولا بنقد طرطوف وتمهيد الطريق للأداء الراقي.
وهنا يقر ستانيسلافسكي أن النضال ضد تكلف الهواة أسهل من النضال ضد صنعة المحترفين.
على هذا الأساس فأمل الممثل الهاوي في الإبداع أكبر من حظوظ الممثل الذي استهلكته النمطية. (المقال الذي خصصته مجلة دفاتر سينمائية عدد مارس 2010 لفيلم مارتن سكورسيزي Shutter Island يتهم ليناردو كابريو بالوقوع في النمطية بعد أربعة أفلام متتابعة مع نفس المخرج).
www.cahiersducinema.comكيف تكتشف طرطوف؟
1- يبحث عن نموذج جاهز من معارفه فيقلده كشكل خام دون تمثل للمادة. تقليد خارجي يتغذى من ذاكرة انطباعات الممثل وينجح فقط إن كانت لتلك الانطباعات صلة بالدور.
2- يعيد إنتاج القوالب الإنسانية العامة التي لم يجر صوغها من اجل التمثيل.
3- ممثل نمطي يكرر سمات شخصيات نموذجية لا يدري أن "الذوق المنحط في الحياة أكثر من الذوق السليم".
4- توطدت لديه أشكال من الأداء المكرورة التي تحرم الدور من نضارته وعفويته لذا لا يستطيع حلق كل دور على انفراد، بل يؤدي كل أدواره بنفس الآلية.
5- يملأ القالب الجامد المستنسخ كل مكان في الدور، لذا فلكي يعبر الممثل عن القوة التي لا وجود لها في الواقع لديه، ينفجر بالصراخ دون سبب واضح.
6- يقدم محاكاة كاريكاتورية تثير الشفقة لا التعاطف.
7- يخطط ليذهل المتفرجين ويصفعهم... لذا لا يركز على الدور لينسى الجدار الرابع المفتوح، بل يفكر في تسلية الجمهور فيعوقه ذلك عن التعمق فيما يفعل لأن "الفنان ينظر خارج ذاته وليس إلى أعمال نفسه".
8- لديه طريقة تمثيل واحدة تستنسخ على الدوام حتى أن الجمهور حفظ شكله الخارجي. ولا يتوقع منه جديدا.
9- صار التمثيل لديه صنعة، لذا لا يعيش معاناة الدور فيضطر للإستعانة بالأقنعة الجاهزة لديه.
10- المصيبة "أن القالب الجامد لزق وملحاح بطبيعته، إنه ينفذ إلى الإنسان كالصدأ، ويتغلغل إلى الأعماق ما أن يجد منفذا إليها، وهو يتكاثر ويسعى للاستيلاء على جميع اجزاء الدور وجهاز التعبير لدى الممثل" 79
(أظن أن الاسم يحيل على مسرحية Tartuffe لموليير).
لدى طرطوف لائحة كليشيهات يكررها كل ممثل مطرطف إلى اليوم:
1- يضغط عضلات الجسم والوجه بشكل مفتعل.
2- يتنفس بصورة متشنجة دون سبب درامي مقنع.
3- يصرخ فينتج هستريا مسرحية بلا مضمون.
4- يضع يده على القلب ليعبر عن الحب.
5- يمزق ثيابه لنعرف أنه حزن للموت والفراق.
6- يتهدج صوته آليا فجأة ليعبر عن التعاسة.
7- يغطي وجهه بيديه بدل البكاء.
8- يفرك جبينه علامة على الحيرة.
9- يمسك بشعر رأسه لنعرف أنه يائس.
10- يكرر دور العجوز المتصابي.
11- يلوح بيد واحدة للتهديد.
12- يتكلف فورا الرقة المبالغ فيها خلال اللحظات الشاعرية.
13- يقرأ حوار الدور بصوت تقريري.
هذه قوالب جاهزة مستنزفة يقبلها المتخلفون فنيا ويظنها المتفرج البسيط تمثيلا بينما القسم الأعظم من هذه القوالب "مهين بما فيه من رداءة الذوق وضآلة الاستيعاب وسطحية العلاقة بالشعور الإنساني أو ببساطة بما فيها من غباء".
هكذا يحمل طرطوف معه ما لا يحتاجه الدور ليسلي المتفرج بعرض جاهز. النتيجة: أثر طرطوف لا يدوم.
وقد وجدت صدى لهذه الفكرة لدى تاركوفسكي الذي يكره الممثل الذي يستخدم بشكل غير مكبوح، كليشيهات مسرحية بالية، يمطط الأداء بتكلف، يحاول بصعوبة فائقة أن يكون مضحكا... كلما بذل جهدا أكبر اتضح أن منهجه أجوف... يقع في البنية المبتذلة والعقيمة، سمسار يتملق الجمهور... النتيجة: جاذبيته قصيرة الأجل.
ينبهه تاركوفسكي "أن تكون مضحكا ليس مثل أن تجعل الناس يضحكون".
في رمضان من كل سنة، تقدم السيتكومات السريعة عشرات الطراطيف للمشاهد المغربي.
السبب؟
تصوير حلقات دون سيناريو أو حتى موضوع محدد، لذا يضطر الممثلون، حتى لو كانوا موهوبين، إلى الاعتماد على لغة الشارع ويفتعلون حركات متشنجة لابتزاز ضحكات المتفرجين أثناء الإفطار.
لن نذكر أسماء الآن، لكن سننتظرهم في رمضان القادم ولدينا اللائحة أعلاه لنضع لكل كليشيه إسم طرطوف الذي يناسبه.
تعبيرا عن التفاؤل آمل أن يخيبوا ظننا.
هذه هي المخاطر الفنية التي تتهدد الممثل الصاعد، وعليه تجنبها، وهذا تتمة لما ينبغي على السيناريست تجنبه في مقال "أزمة السيناريو". وامتدادا للمؤهلات الضرورية لصانع الصلصة المغربي.
لنر الآن ما على الممثل عمله:
فن المعاناة
بعد أن حدد ستانيسلافسكي للمتدربين لديه ما عليهم تجنبه، بدأ يقدم لهم بديله: فن المعاناة.
ما هي المعاناة الإبداعية؟
هي "إبداع الطبيعة اللاواعي عبر تقنية الفنان السيكولوجية الواعية".
كيف؟
يجب ألا يترك الممثل الطبيعة الإنسانية تعمل على هواها، يجب استثارتها وتوجيهها بوسائل تقنية سيكولوجية تتعلم.
المعنى غير واضح؟
المعلم لديه المثال:
كتسخير قوة الريح لتصير كهرباء.
يجب تسخير الأداء لخدمة الدور. والأداء هو حياة جرى تصحيحها من أجل الخشبة، لذا يؤدي الممثل بوعي وإرادة وهو قادر على التأثير على العمليات السلوكية اللا إرادية لديه وهذا عمل إبداعي مراقب وتحت التأثير المباشر للوعي.
بفضل هذه المراقبة، فإن الأمر لا يتعلق بسجية وطبع وسليقة.
في المعاناة الإبداعية"الممثل لا يعيش بل يؤدي، إنه يظل باردا إزاء موضوع أدائه بيد أن فنه يجب أن يكون كاملا"
مع مثل هذه السيطرة على الأداء، يكون الدور ناميا، متقدما، لن يكون المستوى متذبذبا، فيه لحظات تألق وفراغ.
لتحقيق ذلك لابد من أمرين:
الخيال والانتباه.
لا وجود لفنان دون الخيال. ويميز ستانيسلافسكي بين نوعين من الخيال:
- خيال يملك عنصر المبادرة ويعمل بصورة مستقلة ويتطور
- خيال لا يبادر ولكن يلتقط ما يوحى به إليه ثم يستأنف تطويه بصورة مستقلة.
مثال مضاد:
ويحذر ستانيسلافسكي من خيال لا يلتقط ولا يطور ويصف ذهن صاحبه بالميكانيكي... وهذا لا فائدة منه، لأن على الفنان أن يكون يقظا سريع الفهم. الأغبياء كارثة على الفن. لا يلاحظون ولا يلتقطون. يفصلون من الفرقة.
كيف يخدم الخيــــــــــــــال الممثل؟
يحث المعلم المسرحي الممثل على استخدام خياله عبر كلمة "لو" السحرية التي تنقل الفنان من الواقع اليومي إلى الخيال. لو تطرح على الممثل سؤال:
ماذا عساني افعل في هذه الظروف المعطاة؟
- تتطور لو بالظروف المقترحة أي السياق وفيها "قصة المسرحية ووقائعها وأحداثها، إنها العصر وزمان الفعل ومكانه وظروف الحياة وتفسيرنا التمثيلي والإخراجي للمسرحية"
- لو ذات طوابق، خصبة لتنمو بفعل داخلي وخارجي، وتصبح لو خصبة حين تبنى ظروف مقترحة ملائمة: أي سياق الحدث في الزمان والمكان.
هذه الظروف المقترحة هي سياق الدور، هي مادة العمل، وعلى الممثل أن يشتغل عليها بخياله "يخلق الممثل لنفسه نموذجا في خياله، ومن ثمة مثله مثل الرسام يلتقط كل سمة وينقلها إلى نفسه بدل الخيش".
التخييل ضد خشونة الخيش.
ما هي شروط التخيل؟
- تقديم فعل التخيل في أفعال مترابطة ويحذر من أن تكون الفكرة "المبتدعة غير منطقية".
- يجب على التخيل ان يرسم عالم الأشياء لتناسب المشاعر الداخلية فعل التخيل ليس حرا تماما بل "يجب أن يكون الفعل المسرحي فعلا داخليا مبررا ومنطقيا ومترابطا وممكنا في الواقع".
ما هو معيار ذلك؟
قوانين الطبيعة.
يقول ستانيسلافسكي "كل شيء في الطبيعة مترابط ومنطقي (ما عدا بعض الاستثناءات) وابتداع الخيال يجب أن يكون كذلك" ص138.
قوانين الطبيعة: التغيير والتعاقب والتنظيم والانسجام... قوانين الطبيعة هي ما يتكرر ويدوم، لا سبيل إلى تغيير قوانين البيولوجيا مثلا. حتى المواضيع تصمم كالجسد، رأس وصدر وأطراف، مقدمة وعرض وخاتمة...
ما فائدة ذلك على التخيل؟
يجيب: إن تماسك الظروف المقترحة تولد انفعالات حقيقية شرط أن يقتنع الممثل بتلك الظروف... ظروف يجب أن تتسم بالبساطة والحس المرهف... هذا ما يجعل الانفعالات تتدفق عندما يتوغل الممثل بعيدا في أعماق ذاته...
يوفر التخييل خطا متواصلا من الظروف المقترحة، ظروف تضمن تطورا داخليا وخارجيا للدور (للمظهر والمزاج)، تطور ينعكس على شاشة رؤية الفنان
يضمن تواصل الرؤية بقاء الممثل داخل الدور، لا يكون أداؤه متبذبا.
التماسك والتنظيم في الحكاية وتطور الأحداث يولد الإقناع.
التشتت يُنفر.
ينصح المدرب الممثل:
أدخل "لو" في فكرة خصبة تولد الأفكار والمشاعر والأمزجة للتأثير على الحالة العامة
بعد هذا التوصيف الدقيق للعمليات النفسية التي ترافق التخيل قدم ستانيسلافسكي تمرينا:
طلب من الممثلين أن يتخيلوا لو أن خطرا يتهددهم في الغرفة حيث يجلسون.
بادروا بالتأكد من إغلاق الباب وتحصينه بوضع الأثاث خلفه.
لاحظ المدرب أنه استثار لديهم غريزة حب البقاء فانطلقوا يبحثون عن سبيل النجاة
يستنتج أن للفرح والخوف أهمية كبيرة في تنشيط الخيال...
ينصح الممثل بتخيل الكارثة أصابته... عندما يفعل يقول له "يحدث الخيال نقلة داخلية في الموضوع"، تخرج الوضع من اللامبالاة...
الخيال ضروري لدراسة الدور والتمرن عليه. بل على الممثل دراسة ما قبل الدور، أي تخيل ما كانته الشخصية التي سيؤديها قبل نقطة بدء المسرحية.
ومعرفة من اين تأتي الشخصية وإلى أين تذهب؟
على الممثل أن يبحث ليستكمل ما ينقص، أن يتخيل بالوسائط التي تحيط به، يحظر عليه أن يتخيل كيفما اتفق.
الانتباه
كيف يتححق ذلك؟
بالتركيز على الفعل السيكولوجي الداخلي أكثر من الفعل الجسماني الخارجي المتشنج الذي يميز طرطوف.
يجب أن تكون حركة الممثل مدفوعة بفهم الشخصية المؤداة لتكون كل حركة مبررة.
تمرين زيادة الانتباه الإبداعي للممثل ل:
1- لينصرف الممثل عن الجدار الرابع المفتوح من حيث يطل عليه الجمهور.
2- لينظر ويرى دوره بوضوح.
3- يتحرر من الخشبة ويعيش الدور.
4- ليكافح الشرود مما يضمن له تأدية الدور بنفس المستوى طيلة المسرحية او الفيلم
5- ليوسع مساحة الانتباه التي تمكن من الابتكار.
6- ليهتم بشريكه في المشهد فيزداد التفاعل بينهما.
7- لينظر في الاتجاه الصحيح ليجذب المتفرج إلى ذلك الاتجاه بدل أن يبقى مشتتا، يقول المعلم "ليس أبشع في المسرح من عين ممثل فاغرة".
الممثل المبدع ينظر إلى أعماق ذاته، وليس إلى المتفرج، يركز ليستبطن الدور ليتكامل الأداء والكلمات، الجسد والصوت...
وهنا تلعب الثقافة دورا هائلا، وللمخرج دور، يقول يقول البولندي Hubnera
"المخرج العدواني لا يتملك روح الممثل".
كيف نتجنب ذلك؟
تجيب سميرا ماخمالباف
"لابد من الكثير من الصبر للذهاب إلى أعماق الممثل للبحث عن حقيقته، النتيجة ستكون باهرة". الأعماق حيث الصدق والإحساس والإيمان...
مع مخرج كهذا، يخلق تربة لولادة الإلهام... يستطيع أن يساعد الممثل ليكيف عجينته الإنسانية مع متطلبات الدور. ليحرر عضلاته، ليستخدم ذاكرته الانفعالية...
ما السبيل إلى ذلك؟
أن يملك الممثل الإرادة والمثابرة للتدريب اليومي المنظم.
محمد بنعزيز
هسبريس