عبدالعزيز كحيل
لما أكنه من إحترام لهذا الرجل أحب أن أدرج بعض مقالاته في منتدانا حتى يستفيد منها الجميع.....
إذا ذُكِر عصر التنوير الذي تَتَباهى به فرنسا والغربُ كله، برزتْ أسماء لفلاسفةٍ ومفَكِّرين وأدباء، تَرَكوا بصماتهم الواضحة عليه؛ منهم: روسو، ومونتسكيو، وديدرو، ويُعتبر فولتير واحدًا مِنْ أشهرهم بلا منازع.
ونريد أن نتناوَلَ في هذا المقال مواقِفَه من الإسلام، التي ما زالتْ إلى اليوم تُثير مناقشاتٍ كبيرةً على أكثر من صعيد.
وفولتير اسمه الحقيقي: "فرونسوا ماري أروي"، فيلسوف ومُفَكِّر فرَنْسي، عاش في القرن الثامن عشر، وتَمَيَّزَ نشاطُه الفكري - مثل نظرائه الآخرين - بالعَدَاء الشديد للدِّين، والمناداة بالحياة المدَنِيَّة والعلمانية، وقيَم الحرية والعدل، والرُّقي والتسامُح، ويجب أن نفهمَ أنَّ كلَّ هذا يعني رفْض هَيْمَنة الكنيسة على حياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم وسُلُوكهم؛ حيث كانتْ هي سيدة المجتمع في أوروبا، وكان نفوذُها في كثير منَ الأحيان أقوى من نفوذ الملوك؛ لاحتكارها الحديث باسم السماء من جهة، وامتلاكها لثروات طائلة من جهة أخرى، وكان أصحاب التوَجُّهات "التنويرية" لا يَقْدِرُون على مُواجَهتها وفَضْحها، والمطالبة بتَحْجيمها؛ فعمدوا إلى سلوك طُرُق غير مباشرة بواسطة الأدَب والفلسفة والفن، وهذا ما فعله فولتير، فقد كان شاعرًا وروائيًّا، وكاتبَ مسرحيات ومؤرِّخًا، بالإضافة إلى كونه فَيْلَسُوفًا، فوَظَّفَ قلَمَهُ في معركة التحرُّر من ربْقة الكَهَنُوت الجاثم على حياة الناس في فرنسا، وساعَدَهُ في ذلك أُسْلوبه الدقيق الأنيق المتمَيِّز بسُخرية حادة، مع العلم أنه كان ممن نسميهم نحن المسلمين: "علماء السلاطين"، لم تعرف له علاقة بالشَّعب وطبقاته الفقيرة المضطهدة.
غلَّف فولتير دعوتَه التنويرية والتجديدية بأغْلفة فيها رفْق وبريقٌ؛ كي لا تثورَ عليه الكنيسةُ، فرَفَع لافتات الإنسانية والعلمانية والليبرالية، داعيًا - ولو ضِمنًا - إلى تحييد الدِّين، والاحتكام إلى القانون الطبيعي، وتحرير الإنسان في عقْله وضميره وسلوكه من كلِّ قيدٍ فَوْقي، وإخراج الكنيسة من مُعتَرك الحياة، ورغم صُعُوبة الموقف كان له كتابات في غاية الحِدَّة، يعري فيها الكاثوليكية والبروتستانتية ويَسْخر منهما، بل امْتَدَّ هجومُه إلى اليهودية حتى اعتبروه "مناهضًا للسامية"، ولم يسلمْ منه الدِّينُ الإسلامي.
وقد لاحظتُ منذ شبابي حبَّ الفرَنسيين الجَمّ لفولتير، واحتفاءهم به، ولَهْجهم بذِكْرِه إلى درجة أنهم أطْلَقُوا اسمه - منذ 1870 - على شارع بباريس، ثم ساحة كبيرة، ثم رصيف مشهور وثانوية ومترو... إلخ.
وقد مَرَرْتُ ببيتِه بباريس، فوجَدْتُ عليه لافتةً تعريفيَّة، وعلمْتُ أنه مَعْلَم وطني، تُشَدُّ إليه الرِّحال، وهذا مفهوم لأنَّه ساهَمَ في تنوير أجيالهم، وتقليم أظافر دين الكهنوت، وتحجيم الكنيسة، والقضاء على "النظام القديم"، ونشر ما يُحِبُّونه مِن حرية فكريَّة وجنسية ونحو ذلك، لكن الغرابةَ تكْمُن في حب العلمانيين العرب - والجزائريين خاصة - له، وهيامهم به، حتى ربطوا اسمَه باللغة الفرنسية، فإذا ذَكَرُوها قالوا: "لغة فولتير"، وتزول الغرابةُ عندما نعرف توَجُّه الرجلِ الفِكْري، وتبَنِّيه لإقصاء الدِّين من الحياة العامة، وخاصة تهَجُّمه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا ما يجعل خصوم الإسلام ينتشون ويفرحون.
والحقيقةُ أن حُجَّتَهُم داحِضة؛ لأنَّ موقفَ فولتير من الإسلام يحتاج إلى تَجْلية وإنصافٍ، ولفَهْمِه لا بد منَ التذكير بأنَّ الرافِضِينَ للدِّين في فرنسا خاصة، وأوروبا عامَّة، كانوا يقصدون الكنيسة المتسَلِّطة المتحَجِّرة المتغَطْرِسة بالدَّرَجة الأولى، ثم عمَّمُوا حُكْمهم على الدِّين كله، بلا دراسة معمَّقة ولا تمييز، لكن كثيرًا منهم راجَعُوا أحكامهم من الإسلام عندما عرفوه ومالوا إلى الإنصاف، وهذا ما حدَث مع فولتير، فأولُ موقفٍ له منَ الإسلام كان مسرحية بعنوان: "محمد أو التعصُّب"، والعنوانُ يُلَخِّص المضْمُون، لكن ليس من العدْلِ الوقوفُ عند هذا الرأي وحْده، فقد جاءتْ كتابات تاليةٌ ومتباعِدة في الزمان، حدَث فيها تطوُّر في جلِّ أحكامه على الإسلام، فيه ميلٌ واضح نحوَ ترْك التعميم، وإبصارٌ للحق.
ويهمُّنا كثيرًا تَجْلِية الأمر؛ لأنَّ الكلامَ الواردَ في تلك المسرحية هو مُرْتكزُ مَن ينتقدون الإسلام من الفرنسيين وأتباعهم العرب.
هذه المسرحيةُ أُلِّفَتْ سنة 1742، وتصَوَّرَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - سفَّاكًا للدِّماء، غادرًا، لا خُلُق له، لكن الأذكياء فهموا آنذاك - وفي مستقبل الأيام - أن ذلك كان مجرد تَمْوِيهٍ لمهاجَمة الكنيسة، من غير السقوط تحت طائلة الرقابة القانونية، وكان هذا رأي الأديب الألماني جوته، الذي ترْجَم المسرحية، وحين أبداه للقائد الفرنسي بونابارت وافقه عليه.
وفي أعمال لاحقة يُغَيِّر فولتير رأيه، فبينما يواصل انتقاده اللاذع للمسيحية، نجده يُثني على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتابٍ أَلَّفَهُ سنة 1766، ويصف دينه بأنَّه أفْضل منَ المسيحية.
أما في واحدة من آخر كتاباته (سنة 1770)، فيقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يلي: "إن دينه حكيمٌ وصارم وطاهر وإنساني؛ حكيم لأنه لا يسقط في جنون الإشراك بالله، وليس فيه طلاسم، وهو صارم لأنه يُحَرِّم القمار والخمر، ويأمر بخمس صلوات في اليوم، وهو طاهر لأنه يُحَدِّد عدد الزوجات بأربع، وهو إنساني لأنه يأْمُر بالصدَقة أكثر من الحج، وأضيف إلى خصائص الحق هذه سمة أخرى، هي التسامُح".
ويشيد في موضع آخر بشعيرة الزكاة، وتحريم القمار، وتَمَيُّز الإسلام بهما، ثم يقول: "كل هذه الشرائع الحازمة، وهذه العقيدة البسيطة، جلبتْ للإسلام الاحترام والثِّقة، وخاصة عقيدةَ التوحيد، التي ليس فيها طلاسم، بل هي مُناسِبة للعقل الإنساني، كل هذا جعَلَ عددًا كبيرًا منَ الأمم تعتنق هذا الدين، من سود إفريقيا إلى جُزُر المحيط الهندي".
ثم يضيف هذا الكلام الواضح الساطع: "إن القليل الذي قلْتُه يكذِّب كل ما يقول مُؤَرِّخُونا ومنتقدونا ومواقفنا المسبقة، لكن الحقيقة يجب أن تُواجههم".
والنص التالي المنقول من كتابه "القاموس الفلسفي"، المنشور في سنة 1764 أحكم وأوضح: "أقولها لكم مرة أخرى، أيها الجهَلة الحمقى، الذين أقنعهم جهَلة آخرون: إنَّ الدِّين المحمديَّ شهواني، إن هذا ليس صحيحًا، لقد خَدَعُوكم في هذه المسألة كما في مسائل متَعَدِّدة أخرى، أيها القساوسة والأحبار، لو فُرض عليكم أن تمتنعوا عن الطعام والشراب من الرابعة صباحًا إلى العاشرة مساء في شهر يوليو، عندنا يصادف الصيام هذا الشهر، ولو منع عنكم القمار بكل أنواعه، ولو حرّمت عليكم الخمر، ولو كتب عليكم الحج في الصحراء المحْرِقة، ولو أَمَرْتُم بإخراج اثنين ونصف من دخْلكم للفقراء، ولوِ اقْتَصَرْتم على أربع زوجات، أنتم الذين ألفتم التمتُّع بثمانيَ عشرة امرأة، هل يمكن - بكل صدْق - أن تقولوا عن هذا الدين: إنه شهواني؟".
لا أنكر أن موقف فولتير من الإسلام يتَّسِم بالتذبذب، لكن النقولَ السابقة التي ختم بها حياته تؤكِّد حدوث تطوُّر إيجابي في أحكامه على هذا الدِّين، بعد أن تعمَّقَتْ دراستُه له.
فلماذا يغفل العلمانيون عن هذه النظرة الإيجابية المنْصِفة، ويَتَشَبَّثُون بالمسرحية المذكورة، التي لا علاقة لها إطلاقًا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - وسيرته، إنما هي محضُ عمل خيالي، يغلب الظن أنه كان نقدًا مبطنًا للكنيسة؟!
أين المنهج العلمي الذي يزْعُمُون التعبُّد به؟! وأين الموضوعية والأمانة العلمية؟! إن تخليص الغربيين من الأفكار الخاطئة عن الإسلام، والتي توارثوها من غير تمحيص - جديرٌ بأن يُحَبِّب إليهم دين الله تعالى، ويفتحَ لهم أُفُق البحثِ النَّزِيه، والقراءة الواعية غير المنْحازة ابتداء للأحكام السلبية، وفي هذا خير كثير للإسلام من ناحيتين؛ فهو يفتح له عقولاً وقلوبًا وأمصارًا؛ كما أنه يسحب البساط من تحت أقدام التغريبيين العرب، الذين يَتَّكئُون على مواقف ملاحدة الغرب لرفض الدين والقيم والأخلاق.
فإذا رددنا الحق إلى نصابه تلاشَتْ حججهم، وانكسرت أسلحتهم، فلعلّهم يتوبون، أو على الأقل يتوارون عن المشهد الثقافي؛ فيقل ضررهم، وتخفت أصواتهم؛ حتى لا تكون فتنةٌ، ويكونَ الدِّين كلُّه لله.