لما أكنه لهذا الرجل (عبد العزيز كحيل) من إحترام أحب أن أدرج من مقالاته بمنتدانا حتى نستفيد منه..
و إليكم مقالا من مقالاته
فرنسا تسفر عن وجهِها القبيح
عبدالعزيز كحيل
يومًا بعد يوم تدير فرنسا ظَهْرها للقِيَم والمُثُل التي تَشَدَّقَتْ بها منذ ثورتها في 1789م، والمتمثِّلة أساسًا في: الدِّيمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، حتى صوَّروها بأنَّها ملاذ المضطهدين، ومتنفَّس المُضَيَّق عليهم، والبلد الذي يتَّسع لكلِّ الآراء والاتِّجاهات الفكرية والسياسية والذوقية، تدير ظَهْرها لها، وتسْفر شيئًا فشيئًا عن وجْهٍ قبيح، رسمتْه الريشة اليهودية والأُصُولية العلمانية العدوانية.
في فرنسا - قبل أي دولة غربية أخرى - بدأت الحملة ضد الحجاب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وانتهت إلى سَن قانون ظالِم يحظر على المسلمات ارْتِداء لباسهنَّ الشرْعي في المدارس؛ ليمتَدَّ في صمْت وخُبث إلى كافَّة الدوائر الحكومية، وحتى المؤسَّسات الخاصة.
ولم يكنْ ذلك طفْرة - كما يعرف المتابِعون للحياة السياسيَّة والثقافية الفرَنسيَّة - لأنَّه امْتدَّ ليتخذ مظْهر العداء للإسلام كهُوِيَّة، وانتماء، والتِزام - من جهة - والتبنِّي الوَقِح الواضح للأُطْرُوحات اليهودية المتَطَرِّفة - من جهة أخرى - وهكذا برز مفهوم "معاداة السامية"، واحتضنتْه أحزاب وجمْعيات وشخصيَّات نافذة؛ ليكون رادعًا لكلِّ مَن ينتقد الدولة العبريّة بأي شكلٍ أو لفظ، ومهما كان نقده موضوعيًّا ومدعَّمًا بالحُجج والأرْقام والصور والشهادات الحية.
وهكذا يستطيع أيُّ أحدٍ كان في فرنسا "رمز التنوير والحرية" أن يَتَكَلَّم أو يكتب في ذمِّ أيِّ دين، والاستهزاء بالله تعالى، والتَّهَكُّم بالأنبياء، واتِّهام السيد المسيح - وهو إله القَوْم هناك، أو ابن إلههم - بما يشاء، فهذا من حرية التعبير التي تعتبر حقًّا مقدَّسًا يحميه الدستور والقوانين والمؤسسات والنُّظُم، أمَّا الكلام عن محرَقة اليهود المزعومة بالتشكيك في عدد ضحاياها - فضلاً عن إنكارها - فهو أنكر المنكر، وأبطل الباطل، وأمحل المحال، فلا يَجْرُؤ عليه أحد، وإلا كان مصيرُه التَّشهير والتشْويه والمتابَعات القضائية، مهما علا شأنُه علْميًّا واجتماعيًّا، وإن كان هذا ليس حكرًا على فرنسا؛ بل هو دأبُ الدِّول الغربية كلها.
وكم من أكاديمي مرموق، ومؤرِّخ قدير، ناقش "الهولوكست" من الناحية العلمية والتاريخية البحْتة، معتمدًا أدوات البحث المحايدة، والمعترف بها في أرْقى الجامعات، لم يشفعْ له ذلك إذا خالَف الرِّواية اليهودية الرسميَّة في "المحرقة"، فمُنِع من طبْع كتبِه في فرنسا، ولاحقتْه حملة شعْواء، قادها الإعلامُ الفرنسي بمختلف أطيافه، حتى اضطر بعضُ هؤلاءِ إلى مغادَرة فرنسا، البلد الذي يزعم الزاعمون أنه ملجأ ضحايا الظُّلْم وتكميم الأفواه.
وقد حدث هذا للمفكِّر العالمي روجي جارودي، واللاَّفِت في قضيته أنَّ القس بيير - الذي كان صاحب أعظم شعبية في فرنسا - ساند صديقه جارودي ضد الحملة التي استهدفته، فانقلب عليه الرأْيُ العام، واضطر إلى الاعتذار لليهود، وسحب مساندته لصديقه.
هذا شيء من التاريخ القريب، أما هذه الأيام فالرأي العام الذي يوجهه اليهود المنتقدون منشغل بقضية الفنان الفكاهي "ديودوني"، وهو رجل أسود البشرة، فرنسي الجنسية، لكن أصله من الكاميرون، هذا الرجل محبوب للفرنسيين؛ لمهارته في الفُكاهة، تستضيفه مختلف وسائل الإعلام بتبجيل وحفاوة؛ لكنه ارتكب خطيئة لا تُغْتَفر في فرنسا، هي صدحه بمناوأة الصِّهْيونيَّة، والتندر بها في كل محفل يدخله، وكل منبر يعتليه، مما كلفه متابعات قضائية لا تنتهي، وحصارًا إعلاميًّا مطبقًا، وهجمة عنيفة متعدِّدة المصادر، ولم تجرُؤ الأسرة الفنِّيَّة على أن تؤيده بكلمة.
واختار "ديودوني" هذه الأيام أن يستفز الساحة الفرنسية بإعلانه ترؤُّس قائمة لِخَوْض الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبِلة، وسمَّاها "القائمة المناهِضة للصِّهيونيَّة"، فاستنفر ذلك اللوبي اليهودي القوي، فملأ الدنيا شكوى من الفنان "المعادي للسامية"، إلى درجة أن كاتب الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية وَصَفَ ترشُّح ديودوني بالخطر على شرَف فرنسا، وقال باللفظ: "إن قائمة تدافع عن أفكار معادية للصهيونية، وبالتالي معادية للسامية بطريقة مُلْتوية - لقائمة منافية لشرَف فرنسا، ومخالفة لكلِّ القِيَم التي نؤمن بها".
بهذا الوضوح تعتبر الحكومة الفرنسية معاداة الصهيونية معاداة للسامية، رغم أن هذه الأخيرة انتماء عرقي يضم العرب واليهود، في حين أن الصِّهيونيَّة حركة سياسيَّة إجرامية، سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن صدقَّتْ على وصيَّة تعتبرها شكْلاً من أشكال العنصريَّة.
وهكذا سيجد الفنان الإفريقي الأصْل نفسه في مواجَهة مباشرة ليس مع اللوبي اليهودي وحده، وإنما مع الدولة الفرنسية في مكوناتها الرسميَّة والأهليَّة، مما لا يترك له أي حظ للفَوْز، ودخول البرلمان الأوروبي في ستراسبورج.
إن "ديودوني" أعطى درْسًا للسياسيين، وكل مَن يسمون بالنخب العربية، فهو يعلم أن جرْأَته في فضْح الصِّهيونية ستكلفه شُهرته ومستقبله السياسي، وربما الفني أيضًا؛ لكنَّه ثابت على موقفه؛ انطلاقًا من آرائه ذات الصبغة الإنسانية، التي فرضت عليه ألاَّ يهادن الصِّهيونية المجرِمة، وأن يعري الحقائق التي ترفض فرنسا "التنويرية" الاعتراف بها، وفي مُقدمتها تقديس الدولة العبريَّة، والأطروحات التوراتية، مع العِلْم أن فرنسا تسكت - على الأقل - على وُجُود حزْب عندها قائم على العنصرية بصفة رسمية، هو "الجبهة الوطنية"، التي لها نواب في البرْلمان الأوروبي، فماذا بقي منَ القِيَم العالمية التي تزعم هذه الدَّوْلة أنها الرائدة فيها، وهي ترفض الاختلاف، وتحجر على حرية الرأي؟!
نعم، أعطى الفنان درْسًا للنخب العربية، فهو يستميت في فضْح الصِّهْيونية، وأطراف عربيَّة تتاجر بالقضية الفِلَسْطينية، وأخرى تحاصِر غزَّة، وتقتل أهلها ببطْء، وثالثة تدافِع عنِ اليهود، في حين تنسق السلطة الفلسطينيّة سياسيًّا وأمنيًّا مع الاحتلال الصِّهْيوني لِمُواجهة العدو المشترك: حماس.
أمَّا الأوساط الفنية والإعلامية العربية، فأحوالها مقززة؛ لأنَّنا نُتابع بين الفينة والأخرى أخبار الزيارات "الأخوية" إلى فِلَسْطين المحتلَّة للتبْشير بالتطبيع مع اليهود، بوساطة الفن، والتواصل الإعلامي.
ويتمنَّى هذا المُطرِب أو ذاك أن يغنِّي مع واحد من اليهود ويعتز بذلك، ويزور صحفيون عرب فِلَسْطين المحتلَّة، ويتحدَّثون هناك - وبعد عودتهم - عن الأخُوَّة مع اليهود، ويذرفون هم أيضًا الدموع على المحْرَقة المزعومة، ويصبون جام غضبهم على الإرْهاب والأُصُولية الإسلامية.
هذا ديودوني وهؤلاء بعض فنَّانينا، وتبلغ المأساة مداها عندما يتوسَّل الوزير المصري توسُّلاً لليهود، ويبالغ في خطب ودهم، وشجب عدوهم - أي: الفِلَسْطينيين والمسلمين - رجاء أن يباركوا ترشحه لمنْصب الأمين العام لمنظَّمة اليونسكو.
فتحيّة لديودوني وقُبحًا لفرنسا العنصريَّة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.